هذا الجزء الثاني من النتف العلمية والطرائف الأدبية من كتاب المقابسات لأبي حيان التوحيدي.
قال أبو سليمان المنطقي: الحائك لا يزرع القطن، والخياط لا ينسج الثوب، والخباز لا يذبح الشاة، ولو أمكن لفعل كل أحد جميع ذلك، وكان الإنسان يكمل بوفائه بكل شيء وإتمامه لكل شيء، وبالواجب خالف حكم الحس حكم العقل في المعقول.
كل مختلف متفقاً، وكل كثير واحداً، وكل بعيد قريبا؛ وكل متعذر سهلا، وذلك لأن الوحدة العقلية في الكثرة الحسية مدمجة ولو استوى الطرفان لسقط البحث وزال المراء، ولكان لا يشتاق الغريب إلى وطنه، ولا يحن إلى معدنه ثم أنشد:
حنّ الغريب إلى أوطانه طربا
إن الغريب إلى الأوطان حنانُ
فقال أبو حيان وأنا أستحسن بيتا يأتي على أصل الباب وفرعه:
فإن تصبرا فالصبر خير مغبةٍ
وإن تجزعا فالأمر ما تريانِ
قال أبو سليمان وقد جرى الكلام في النظم والنثر: النظم أدل على الطبيعة؛ لأن النظم من حيز التركيب، والنثر أدل على العقل؛ لأن النثر من حيز البساطة.
وإنما تقبّلنا المنظوم بأكثر مما تقبلنا المنثور لأنّا للطبيعة أكثر منا بالعقل، والوزن معشوق للطبيعة والحس؛ ولذلك يفتقر له عندما يعرض استكراه في اللفظ.
والعقل يطلب المعنى؛ فلذلك لا حظ للفظ عنده وإن كان متشوقا معشوقا.
ثم قال أبو حيان: قلت له: النثر أشرف جوهرا، والنظم أشرف عرضا، قال: وكيف؟ قلت: لأن الوحدة في النثر أكثر، والنثر إلى الوحدة أقرب، فمرتبة النظم دون مرتبة النثر، لأن الواحد أول والتابع له ثانٍ.
ثم قلت له: فلم لا يطرب النثر كما يطرب النظم؟ فقال: لأن منتظمون، فما لاءمنا أطربنا، وصورة الواحد فينا ضعيفة ونسبتنا إليه بعيدة، فلذلك إذا أنشدنا ترنحنا، هذا في أغلب الأمر وفي أعم الأحوال، أو في أكثر الناس.
وقد نجد مع ذلك أيضا في أنفسنا مثل هذ الطرب والأريحية والنشوة والترنح عند فصل منثور.
وقال في موضعٍ آخر: الحرف الذي يُدعى في العربية، ويُنسب إلى الأدب موروث من العرب، وذلك أن أرضها ذات جدب، والخصب فيها عارض، وهم من أجل ذلك أصحاب فقر وضر، وربما دفعوا إلى وصال وطي (الوصال: أن يصل نهاره بليله جوعا، والطي أن يبيت طاويا على الجوع)، وكل من تشبه بهم في كلامهم وطريقتهم وعباراتهم ارتضخ ما هو غالب عليهم من الحرف والإخفاق اللذين عليهما إلفهم.
ألا ترى أن الشبع غريب عندهم، والرعب مذموم منهم؟ وهذه هي الحال التي فرقت بين الحاضرة والبادية، وقد زادتهم جزيرتهم شراً لكنهم عُوضوا الفطنة العجيبة، والبيان الرائع، والتصرف المفيد، والاقتدار الظاهر؛ لأن أجسامهم نقيت من الفضول، ووصلوا بحدة الذهن إلى كل معنى معقول، وصار المنطق الذي بان به غيرهم بالاستخراج مركزوا في أنفسهم من غير دلالة عليه بأسماء موضوعة وصفات متميزة، بل فشا فيهم كالإلقاء والوحي، لسرعة الذهن وجودة القريحة.
وقال أبو حيان: سمعت أبا سليمان يقول: من التمس الرخصة من الإخوان عند المشورة ومن الفقهاء عند الشبهة، ومن الأطباء عند المرض، أخطأ الرأي، وتحمل الوزر، وازداد سقما.
قال أبو حيان: قلت لأبي سليمان هل بلاغة أحسن من بلاغة العرب؟ فقال: على ما ظهر لنا وخيل إلينا لم نجد لغة كالعربية؛ وذلك لأنها أوسع مناهج، وألطف مخارج، وأعلى مدارج، وحروفها أتم، وأسماؤها أعظم، ومعانيها أوغل، ومعاريضها أشمل، ولها هذا النحو الذي حصته منها حصة المنطق من العقل، وهذه خصة ما حازتها لغة على ما قرع آذاننا وصحب أذهاننا من كلام أجناس الناس، وعلى ما ترجم لنا أيضا من ذلك.
قال أبو حيان: وكان أبو سليمان يستحسن للبيديهي قوله:
لا تحسدنَّ على تظاهر نعمة
شخصاً تبيت له المنون بمرصدِ
أوليس بعد بلوغه آماله
يفضي إلى عدمٍ كأن لم يوجدِ
لو كنت أحسد ما تجاوز خاطري
حسد النجوم على بقاء سرمدي
فقال: ما أفلح البديهي قط إلا في هذه الأبيات.
وصدق كان غسيل الشعر، سريع القول.
قال أبو حيان: قال أبو سليمان: إنما صار العلم والمعرفة واليقين والفضائل بأسرها قليلة في هذا العالم لشرفها في نفسها واتصالها بعالمها، وهكذا أعزه كل شيء شريف في نفسه وعزيز في جوهره، أنظر إلى المعادن في الأرض وإلى قلتها إذا تدبرت سائر الأجسام، ثم انظر إلى قلة الأشرف منها، وهو معدن الذهب، ثم انظر إلى بخل المعدن بما فيه إلا لمستحقه بالطلب والجهد والمعاناة والكدح، وهكذا المعارف والفضائل تعرف في هذا الجناب لأنها تنبو عنه فلا تقر فيه ولا تأنس به.
هذه نهاية الجزء الثاني، ويتبعه جزء أخير.