بين يديَّ كتاب المقابسات لأبي حيان التوحيدي –رحمه الله- وأجزل له العطاء، وهو كتابٌ فلسفي في المقام الأول، ثم أدبي ومعرفي وديني في المقامات الأخرى.
كتابٌ ينخر العقل، ويزلزل الثوابت، ويثير أسئلة ربما لا تحتملها عقول كثير من الناس؛ على أني لم أفهم كثيراً مما فيه وهذا ليس بغريب فالتوحيدي نفسه قال بعد أحد المقابسات: (وهذا آخر ما فهمناه في هذا الفصل) وفي موضع آخر يقول (وصفيت هذا المقدار بعد استفهام كثير ومراجعة شديدة؛ لأن الإشارة غامضة والإيماء خفي).
الكتاب يقع في أربعمئة صفحة من القطع الكبير، وسأورد بعض النتف الخلابة منه كيلا يُحرم الناس من جماله وبهائه وكماله.
حكى أبو حيان قال: حضرت مائدة الصاحب بن عباد فقدمت مضيرة فأمعنت فيها.
فقال لي: يا أبا حيان، إنها تضر بالمشايخ! فقلت: إن رأى الصاحب أن يدع التطبب على طعامه فعل! فكأني ألقمته حجرا، وخجل واستحيا، ولم ينطق إلى أن فرغنا.
وقال التوحيدي: سمعت أبا إسحاق النصيبي يقول: ما أعجب أمر أهل الجنة قيل: وكيف؟ قال: لأنهم يبقون أبداً هناك لا عمل لهم إلا الأكل والشرب والنكاح؟ أما تضيق صدورهم؟ أما يكلّون؟
فأعدت على أبي سليمان المنطقي قوله بنصه وحكيت شمائله فيه فقال: إنما غلب عليه هذا التعجب من جهة الحس لا من جهة شيء آخر، وهكذا كل ما فرض بالحس أو لحظ بالحس؛ لأنه قد صح أن شأن الحس أن يورث الملال والكلال، ويحمل على الضجر والانقطاع، وعلى السآمة والارتداع. وهذا منه في ذوي الإحساس ظاهر معروف، وقائم موجود وليس كذلك الأمر في الميعاد إذا فرض من جهة العقل؛ لأن العقل لا يعتريه الملل، ولا تصيبه الكلفة، ولا يمسه اللغوب، ولا يناله الصمت، ولا يتحيفه الضجر، وهكذا حكمه في الشاهد الحاضر، والعيان القاهر.
وقيل لأبي سليمان: كيف يفعل العاقل اللبيب والحازم الأريب، ما يندم عليه؟ وكيف يقدم على ما يعقبه تبعة، ويأتي ما يأباه بعقله، ويكرهه بدينه، ويعافه بمروءته، وينكره بعادته؟ فقال: الاختيار والاستطاعة والقوة والقدرة، والحزامة والعزامة، والرأي والروية، والشهامة والصرامة، والتحصيل واليقظة، وكلما كان في قبيلها، ليس هي للإنسان على طريق الملك يصرفها كيف يشاء، ويقلبها كيف يريد، بل هي من جهة التمليك، فلو كانت على جهة الملك ما زل زلة ولا ضل ضلة، ولا ندم ندامة لاذعة، ولا التزم مؤلمة موجعة، متى كانت عنده على وجه التمليك من مالكها بقيت منها بقايا عند مالكها متى شاء تمام فعله أمده منها بما يتم له فعله، لئلا يظن ظان أن ذلك لاستقلاله بنفسه، وكماله بقدرته، واستغنائه عن مملكته، بل يتم له شيء ليرتاح له ويشكر مقيضه ينيله بلاغه، أم بانقطاع شيء آخر ليفزع إلى ربه ويلوذ به بمسألته، ويتبرأ من حوله وقوته، ومن علمه وبصيرته، ومن جلده ونجدته، ويلوذ بمن هو أوله به، ويستمد ممن هو أملك له، ويستأمر إلى من هو أقدر عليه، ويلقي مقاليده كلها إليه، ويطرح كله بين يديه.
ومن بدائع المنطقي قوله: كل هذه الأشياء بعد الحياة والعقل والعافية فروع؛ فإن الإنسان بعقله يصبر على الفقر، وبعقله يجتلب الغنى، وبعافيته يبلغ الغاية ويكسب السعادة.
فيتصرف بثمرة الراحة مرة، وبالصبر مرة، ويريه الحكمة فيما فشا وسر، ويؤديه إلى السعادة في كل ما أقبل وأدبر؛ لأن العقل متى حل شخصاً أضاءه وأناره، ومتى فارق شخصاً كدره وأباره.
وقال أبو زكريا الصيمري: الكمال عزيز؟ قال له: أو تدري لم؟ قال: أفدنا.
قال: لأن الكون والفساد واسطة لهما، فالمقوم بها لا كمال له؛ لأن الكمال في الوسط لا في الطرف، ولكن ليس الرقي كالهوى، ولا الهبوط كالصعود، ولا ما يزان به مثل ما يشان به، ولا ما نعذب به مثل ما نثاب عليه إنك لعلى جدد لو كان لي منك مدد.
ومن أجل عدم الإطالة فإني سوف أختم الجزء الأول، ثم سأورد مستقبلا باقي النتف إن شاء الله.