­
24مارس

من يستهلك المعنى؟

في ظل هذا الزخم المعرفي وشلال المعلومات الجارف يبرز تساؤل ملح: من يستهلك المعنى في ثورة الإنتاج الضخمة؟

كلما نظرت في زوايا هذا العالم الرقمي المخيف لا أرى أحدا يريد أن يكون “مستهلكا” للمحتوى، وإنما صانعا له بشتى أنواع الصناعة، إما خلقا وابتكارا أو تعليقا وتصحيحا، وإما انتقادا صارخا…إذن: من يقرأ لمن؟ لا أحد يريد أن يقرأ، الكل يريد أن يكتب، والمنافسة أصبحت صعبة بحكم أن المحتوى المصنوع حاليا فيه جودة لا بأس بها وربما يكون المحتوى مصمما بطريقة احترافية أو يكون متضمنا فيديو!
الكل يقدم نفسه كمرآة لتخصصه لكن من ينظر في المرآة دون أن يشتهي أن يرى نفسه؟!
هذه الدوامة من النشر المستمر هي “محرقة” للمحتوى في ظل هذا الزخم المحموم الذي لا يهدأ من سيل المعلومات الجارف.
سابقا كنا نقول أن المعرفة “سُلطة” واليوم صار المحتوى “سُلطة” وفي رواية: المحتوى الملك!
بل البعض صار وجوده الرقمي أكثر وأكثف من حضوره في العالم الواقعي.
العالم الواقعي أقصد به حضور الملتقيات والمنتديات والمؤتمرات والأمسيات الشعرية والمعارض المهنية التي تثري الفرد في مجاله.
الأغلب يريد أن يصنع فتات المعنى لوليمة الإعجاب.
والله إنه لعجب هذا التسارع المخيف: من يستهلك هذا الطوفان من الصور والكلمات والاقتباسات السريعة؟
أليسوا هم أنفسهم من ينتجونها، ألم يتحول المستهلك إلى منتج يستهلك ذاته، وكأننا في دوامة تصنع السرعة وتلتهم العمق
نولّد الكلام وندفنه في اللحظة نفسها!
عرفت الصحراء قديمة بأنها مهلكة لأنها تخلو من الماء ويكون الإنسان معرضا فيها للضواري، العجيب حاليا أنني أشعر أننا في صحراء مزدحمة من المحتوى!

المفارقة أن التكنولوجيا وعدتنا بقرب أكثر وبجسور أطول وبمشاعر أدفأ؛ لكن ما حدث هو العكس: لقد جعلت كل شيء:
أقرب وأبرد
أسرع وأفقر
أخذتنا إلى مكان نرى فيه كل شيء: إلا بعضنا.
الكل صار صانع محتوى؛ لكن أين صناع المعنى؟
الآن من نستطيع أن نقول عنه أنه يقول شيئا لا يشبه غيره؟!
من نقول عنه أن يكتب لأن في عقله أفكارا ترفض جدران الصمت؟!
قلقي ليس خوفا على كرسيي، فقد جلست طويلا في كرسي الكتابة، وأنا لا أخشى الزحام بل أخشى الفراغ المختبئ فيه!
أخشى أن نكون قد ملأنا الدنيا بالقول وتركنا المعنى يتيما على عتبة الشاشة!
كان هناك يوم للشجرة وللبيئة وللمرور وحتى للدفاع المدني:
هل ستأتي اللحظة التي نطالب فيها بيوم عالمي: للمعنى!

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *