مجموعة شعرية للشاعر حاتم الشهري من المملكة العربية السعودية، صدرت عن دار الوتر السابع، عام 2021
تقع في ثمانين صفحة، لكنها تقول الكثير الكثير، فقد غنَّى فيها الشاعر وحيداً( للتيه، للريح، للزمن الجريح)، وسكب صوته في (فناجين مقلوبة)، لكنَّ (هديله لم يتوقَّف بسبب اللاأحد). إنَّها غربة المبدع في زمنٍ ليس زمنه، فكيف عايَشها حاتم الشهري؟!.
استوقفني هذا العنوان الطريف طويلاً ( أعرف وجه اليأس جيِّداً)، ووددت لو أن الشاعر لم يقيِّد معرفته لليأس، فحذف كلمة ( جيِّدا)، وترك معرفته به مطلقةً غير محدودة، ما يفتح على نصوصه أبواب التأويل، ويُلهِب خيال القارئ لفحوى النصوص، ويثير شغفه بارتيادها.
أهدى الشاعر مجموعته الشعرية التي هي إحدى زهرات حياته إلى عزرائيل الذي لا يُهدي إلا الموت.
لتكون عربون صداقة وهدنة بينهما
إن الكتابةُ بحدِّ ذاتها هي إفصاح عن كائنٍ كئيبٍ، مرهف الإحساس بكلِّ ما تقع عليه عينه، أو يمرُّ به من نار التجارب، وفي هذه المجموعة الشعرية جاءت نصوص الشاعر ومضاتٍ تشعُّ بالأمل والألم، تحمل إشراقاتِ روحه حيناً، و انطفاءَها حيناً آخر، ومضاتٌ متوهِّجة لروح شفيفة حسَّاسة، يكشف لنا الشاعر من خلالها عن تجارب كثيرة باءت بالخيبة، وتلفَّعت باليأس، في نصوصٍ قصيرة تنطوي على سخرية لاذعة مبطَّنة، من علاقات الناس التي تطغى عليه النفعيَّة، وتشفُّ للقارئ اللَّماح عن روحٍ خبِرت الحياة، وتلقَّت صفعاتِ الغدر والخيانة من أبنائها.
لم يلجأ حاتم إلى الإغراب في اللغة، بل تركها على فطرتها وعذوبتها البِكر، لتخرج الفكرة كما عاشها نديَّةً طازجةً، يلتهمها القارئ بشهيَّةٍ و متعة (فما يخرج من القلب يقعُ في القلب، وما يخرج من اللِّسان لا يتجاوز الآذان).
ولم يخلُ قلبُ الشاعر من وهج التفاؤل، ولو في حياةٍ قادمة، رغم عنوانه العريض ( أعرف وجه اليأس جيِّداً)الذي يوحي بيأس عميق مرير. ففي أولى نصوصه كتب حاتم: ( في الحياة القادمة سيمنحني الله خطَّاً جميلاً / حتى لا يظنُّ أحدٌ أنني أتعامل بالسحر، أو أجيد كتابة الطلاسم/ أتمنَّى ألَّا أقف في الطوابير مرَّةً أخرى/ فقد وقفت بما يكفي ….حتماً سيكون هناك حياةٌ قادمة).
وفي (غرفة رقم صفر) وضع الشاعر نفسه في غرفة العناية المركَّزة، وفي هذيان الكتابة كشفَ لنا بعضَ ما اعتراهُ من آلامٍ وسهامٍ رمته بها أيدي البشر:( أنا قتيلُ الكلام، والظنون السيئة/ مصابٌ بعيارٍ ناريٍّ من فئةِ الكلمةِ الجارحة/ تمَّ تشخيصي بحروقٍ من الدرجة الرابعةِ من درجات غُبنِ الرجال..)
الأفكار عند الشاعر تضجُّ بالحياة والحكمة رغم حداثة سنِّه، وتجري بها لغةٌ رشيقةٌ تموج بالحياة:( هل فكَّرتُ بالانتحار؟ / لا، لكنِّي أفكر بالحياة، الانتحار هو الأصل/ أفكِّرُ دوماً بشجاعتي حيَّاً إلى هذه اللحظة / بداخلي غريزة القطيع للبقاء..).
وكثيراً ما كان الشاعر يلجأ إلى التشبيه التمثيليِّ، ليضعنا أمام صورٍ حركيَّةٍ حسَّية ومفارقات مدهشة: ( عندما تتعب الغيوم تهبط، لا أحد يعرفها، ينادونها ضباباً!!/ وأنا حينما أتعب ما ينادونني؟!!)
(أنا وحيدٌ كفزاعةِ عصافير / أُخيفُ الآمال والأمنيات والعصافير).
كان الشاعر جريئاً في التعامل مع اللغةِ كأنها ابنته المدلَّلة: ( أتحدَّثُ تسعَ لغاتٍ.. / آخرها الابتسامة على جبيرةٍ تنزف دماً / أتحدَّث الخيريَّة: (أنا بخير) / وكذلك الضحكيَّة ( استمرُّ بالضحك) / وأجيدُ اللغةَ الدمعيَّة فالمطر في عيني لا في السماء). وفي نصٍ آخر يقول: ( أربِّي حزني منذ الطفولة / حينما سافرت كان مكتوباً على التذكرة: ممنوع اصطحاب الحيوانات الأليفة/ ومنعوا حزني من الدخول / هل حزني حيوانٌ أليفّ؟!)
تتفجَّر الكلمات عند حاتم بحرارة الوجدان كحبَّات( الفوشار) لذيذةً شائقة سلِسة، لكن أحداً لا يعلم ما مرَّت به من حرارةٍ وألم وتمزُّق. ومن عجينة اللغة أخذ يشكَّل مغامراته بأنامل طفل مشاغب، يجرِّبُ، ويخرِّبُ، ويلهو، ويُصيب،
يقول:( أملكُ مِشرطاً ولصقة جروح / أقطع دابر الأحلام/ ثم أعالجها باللصقة لتمشي عرجاءَ للأبد / أو تموت على الطريق/ لا أذكر حلماً وصل إلى النهاية) ثم لا يلبث نزق طفل الشعر الذي بداخله أن يظهر لينتقل من الهدوء إلى الصراخ:( يقال لي كن قويَّاً؟ إلى متى؟! إلى يوم الدين؟! فأنصهر؟ أذوب تحت أشعة الخيبة)
ويذكِّرنا الشاعر بالشاعر الحطيئة الذي غلب عليه اليأس من الناس، فهجا كلَّ من عرفهم، حتى أنه هجا نفسه، وحاتم يقول:( لو خلقني الله شجرةً لكنت زقّوماً، ولكنه خلقني رجلاً / أبحث عن فرصة تطرق بابي لأفتح لها/ كلَّ شيء يطرق بابي إلا الفرص / الديون، الجيران، السيول، المصائب / والفرص؟ / الفرص عمياء عن بابي!).
و كتب في نص آخر:( رأيتُ متجراً يبيع الأصدقاء/ تمنَّيت لو كنتُ صديقاً ليبتاعني أحدُهم/ أنا لا أريدني فليأخذوني).
و لدى الشاعر أفكار مبتكرة طريفة تمتاز بأصالة التعبير والإبداع والتجديد: ( أنا مكتشف الفردانية/ كنت أعرف الأيام بالتقويم/ الآن أعرفها بطول لِحيتي) وفي نصٍّ آخرَ كتبَ: ( أحلم بالتطبيع بين السُّكر والمِلح/ وكسْر الحاجز بينهما/ أحلم أن أعيد الملابس التي تمشي في الشوارع إلى الإنسانية) وكأنه يحلم أن يخلو هذا العالم من التناقضات و النزاعات . وفي موضعٍ آخر يقول:( تُطبخ التوقُّعات على نار هادئة/ ثم تأتي ريحُ القَدر لتقلِب القِدر).
وفي نص( فناجين مقلوبة) يعرف حاتم وجه الحزن، لأنه لا يجد من يصغي لنداءات روحه و يستجيب لها، فيشعر بالوحدة في هذه الأرض على رحابتها، يقول:( لقد ضاع صوتي في ثقب الحياة/ أريد أن أشتري آذاناً تسمع لي/ لكني لا أحبُّ السَّماع المُبَستر / أتمنى كثافة الحضور / وحماسة الجموع/ بيدَ أنهم لا يحبِّذون زامِرَ الحيِّ) ويذكرنا هذا النص بشعر إيليا أبو ماضي حين كتبَ:
يا صديقي أنا لـــولا أنــت ما وقَّعتُ لحنـا
كنتَ في سرِّيَ لما كنتُ وحدي أتغنَّى
إنها أصداء روحي فلتكن روحك أذنا
إنَّ بعضَ القولِ فنٌّ فاجعلِ الإصغاءَ فنَّا
إنَّه يخاطب من يفتقد ثقافةَ الإصغاءِ، ويحاربُ كلَّ نجاحٍ ينجزُه الآخرون، ويُغمطهم حقَّهم .
و لا يتردَّد الشاعر في الإعلان عن هزائم روحه بكلِّ كبرياء، في مجتمع يتنكر لإنسانيته وإبداعه:( لقد كنت مهزوماً طوال حياتي/ أنا مهاجم الظِلِّ / ونائبُ الفاعل / والهبوطِ الاضطراري / لم أكنْ فِعلاً أصيلاً أبداً / هزمتني الحياة / لا أودُّ أن يشعر أحدٌ بالأسف عليَّ / ولكنه واضحٌ أمام الجميع أنني مهزوم) وهنا يُظهر لنا الشاعر جانب الـ ( دون كيخوت) الذي يسكنه، ذاك الذي كان يظنُّ أنه يحارب من أجلِ مجتمع أجمل، تسوده العدالة والسلام، لكنه كان يعيش مغامرات الخيال فحسب، في أفكاره الطُّوباية النبيلة، دون أن يغير شيئاً على أرض الواقع.
إنه لا ينفكُّ يصف لنا بمرارةٍ (لا إنسانية) بعض البشر، الذين لا تحرِّكهم جوارحُ إنسانيتهم لإنقاذ يائسٍ أو شقيٍّ، طالما به نزْعٌ يقاوم، فيقفون موقفِ المتفرِّج المحايد، و الصامتِ الأبله، والصَّنم العاجز:
( لقد كنتُ أغرقُ وأنا على اليابسة! / لقد غرقَ وانتهى الأمر/ كنَّا قادرين على مساعدته/ لكنَّ الذي جعلنا نتهاونُ/ أنه يبدو دائماً بشكلِ الذي سينجو).
وفي ومضة مذهلة يشعر فيها حاتم بالانطفاء، تشرق الفكرةُ، فيقبض عليها شاعرنا بذكاء:( متى انطفأتُ؟ / أريدُ أن أجيب / لكنَّ السؤالَ جاء متأخِّراً جداً )
إشراقات روحٍ نقية في زمنِ المادة، جمعها الشاعر في محرق الومض، لتَخرُجَ مقاطعَ شعريَّة كثيفة الدلالة، كان كلٌّ منها كالحصاة التي تُلقى في بحيرةٍ راكدة، فتتسع حولها الدوائر لتحرِّك المياه الصامتة.
هذه إطلالة من شرفة القارئ المتذوِّق على حديقةٍ شعرية كثيرة الزهرِ ، شذيَّة العطر، أدعوكم لزيارتها ، و ارتياد محاسنها بأنفسكم. متمنيةً للشاعر الصديق حاتم الشهري أن يرافقه الأمل دائماً بإنجاز ما هو مميَّزٌ وراقٍ ونبيل من حدائق الشعر.
ماجدة أبوشاهين / سوريا