أرى أن الحد الأدنى من النزاهة يفرض علي أن أحدد نوع السرد الذي يهمني، وأوضح رؤيتي الخاصة للعالم.
كل القصص التي كتبتها تقريبا تنتمي إلى ما يسمى بالنوع الفانتاستيكي، وأقول (فانتاستيكي) لعدم وجود تسمية أفضل من هذه، وهي تناقض الواقعية المزيفة التي تقوم على مبدأ أن كل شيء قابل للوصف والتفسير كما كان يقبل بذلك التفاؤل الفسلفي والعلمي في القرن 18.
في حالتي الخاصة، شكي في وجود نظام أكثر سرية وأقل قابلية للاطلاع عليه، واكتشافي المثمر للكاتب ألفريد جاري، الذي يعتبر أن الدراسة الحقيقية للواقع لا تكمن في القوانين بل في استثناءات هذه القوانين.
القصة جنس أدبي يصعب جدا وضع تعريف له، وهو زئبقي في جوانب متعددة، وهو في نهاية المطاف جنس سري ومغلق، ذو لغة لولبية تجعل منه في غموضه الأخ الشقيق للشعر في بعد آخر للزمن الأدبي.
الإبداع العفوي يسبق دائما تقريبا الفحص النقدي، وهذا جيد.
لا أحد يمكنه أن يدعي أن القصص لا يجب أن تكتب إلا بعد معرفة قواعدها.
أولا: لا وجود لهذه القواعد؛ في أحسن الأحوال يمكن الحديث عن وجهات نظر، عن بعض الثوابت التي تمنح بناء لهذا الجنس الأدبي العصي عن أي تصنيف.
ثانيا: المنظرون والنقاد لا يجب أن يكونوا بالضرورة هم القصاصين أنفسهم، ومن الطبيعي ألا يباشر الأولون عملهم إلا بعد توفر تراكم، وذخيرة أدبية تسمح ببحث واستجلاء تطورها ومميزاتها.
من أجل إدراك الطابع الخاص للقصة، تتم مقارنتها عادة بالرواية، نوع أدبي أكثر شعبية وكتبت عنه الكثير من القواعد الأدبية.
يشار مثلا إلى أن الرواية تنمو وتتطور على الورق، وبالتالي في زمن القراءة لا يحدها سوى استنفاد المادة المشكلة للحكي الروائي؛ أما القصة، فتنطلق من مفهوم المحدودية، بداية بالمحدودية المادية.
يمكن مقارنة الرواية والقصة بالسينما وفن التصوير، إذا اعتبرنا مبدئيا أن الفيلم (نظام مفتوح) روائي، بينما الصورة الفوتوغرافية الجيدة تستوجب تحديدا مسبقا ومضبوطا تفرضه جزئيا المساحة المحدودة التي تغطيها العدسة والطريقة التي يتعامل بها المصور جماليا مع هذا التحديد.
كان يقول لي قاص من الأرجنتين يهوى الملاكمة، إنه في النزال بين نص مثير وقارئه، تربح الرواية المقابلة بالنقط، بينما يجب على القصة أن تربح النزال بالضربة القاضية.
هذا صحيح لأن الرواية تراكم أثرها في القارئ بالتدريج، بينما قصة جيدة تكون حادة وقاطعة، تخوض معركة بلا هوادة منذ الجمل الأولى.
يجب ألا يُفهم هذا حرفيا؛ لأن القاص الجيد ملاكم داهية، وكثير من لكماته الأولى قد تبدو غير ذات جدوى، بينما هي تقوّض أقوى أشكال مقاومة الخصم.
القاص يعرف أنه لا يمكن أن يعمل بالتراكم، وأن الوقت ليس إلى جانبه؛ وسيلته الوحيدة هي الاشتغال في العمق، عموديا، نحو أعلى أو أسفل الفضاء الأدبي.
يكفي أن نتساءل لماذا تعتبر رديئة قصة ما. إن الرداءة لا ترجع للموضوع؛ لأن الأدب ليس فيه مواضيع جيدة وأخرى رديئة، هناك فقط تناول جيد أو تناول رديء للموضوع.
تكون القصة رديئة عندما تكتب من دون ذلك التوتر الذي يجب أن يظهر منذ الكلمات والمشاهد الأولى.
لذا يمكننا أن نقول إن مفاهيم الدلالة، والكثافة، والتوتر يسمح لنا بمقاربة أحسن لبناء القصة نفسها.
القاص يشتغل على مادة سميناها بالدالة. يبدو أن العنصر الدال في القصة يكمن أساسا في موضوعها، في اختيار حدث واقعي أو متخيل له هذه الخاصية الغامضة المتمثلة في أنه يشع منه شيء يتجاوزه.
إن فكرة الدلالة لا يمكن أن يكون لها معنى إذا لم نربطها بفكرة الكثافة وفكرة التوتر، اللتين لا تتعلقان بالموضوع فحسب، بل أيضا بالتناول الأدبي لهذا الموضوع، والتقنية المتبعة في معالجته.
وهنا يحدث فجأة الفارق بين القاص الجيد والقاص السيء. لذا يجب أن نتوقف بكل عناية عند هذا المفترق لنحاول أن نفهم أكثر بعض الشيء هذا الشكل الغريب من الحياة الذي يسمى قصة ناجحة، ونرى لماذا هو حي بينما قصص أخرى تشبهه في الظاهر، ليست سوى حبر على ورق، وطعام للنسيان.
القاص كإنسان تَلُفه جلبة كبيرة في العالم وملتزم قليلا أو كثيرا مع الواقع التاريخي الذي يعيشه، يختار فجأة موضوعا ويصنع منه قصة.
مسألة اختيار الموضوع ليست بهذه البساطة؛ فالقاص أحيانا يختار، وأحيانا أخرى يشعر كما لو أن الموضوع يفرض نفسه عليه فرضا، ويدفعه لكتابته.
في لحظة معينة يكون ثمة موضوع، إما مبتكرا أو اختير بشكل إرداي، أو فرض بشكل غريب انطلاقا من مجال لا شيء فيه قابل للتحديد.
أقول ثمة موضوع، وهذا الموضوع سيصير قصة، وقبل أن يحدث ذلك ما الذي يمكن أن نقوله عن الموضوع في حد ذاته؟ لماذا هذا الموضوع بالذات وليس موضوعا آخر؟ ما هي الأسباب التي تدفع القاص عن وعي أو عن غير وعي لاختيار موضوع معين؟
أرى أن الموضوع الذي تنتج عنه قصة جيدة هو دائما استثنائي؛ لكن ليس معنى هذا أن الموضوع يجب أن يكون خارقا للعادة، خارجا عن المألوف، لغزا أو غريبا.
على العكس من ذلك، يمكن أن يتعلق الأمر بحدث مبتذل وعادي.
يكمن الاستثنائي في خاصية تشبه المغناطيس، إذ أن الموضوع الجيد يجذب نظاما كاملا من العلاقات المترابطة.
يتخثر هذا الموضوع لدى الكاتب، وبعد ذلك لدى القارئ، ككم هائل من المفاهيم والرؤى والأحاسيس، بل والأفكار التي تطفو افتراضيا في ذاكرته أو إحساسه.
الموضوع الجيد كالشمس، نجم يدور حوله نظام فلكي لم يكن لأحد علم به إلى أن جاء القاص، فلكيٌّ الكلمات، فكشف لنا عن وجوده.
أو حتى نكون أكثر تواضعا وحداثة في الوقت نفسه، الموضوع الجيد يشبه نظاما ذريا، له نواة تدور في فلكها إلكترونات.
أليس هذا كله في نهاية المطاف، مقترح حياة، ودينامية تحثنا على الخروج من ذواتنا والدخول في نظام من العلاقات الأكثر تعقيدا وجمالا؟
إن أي قصة خالدة مثل بذرة ترقد فيها الشجرة العظيمة. ستنمو تلك الشجر فينا، وسيمتد ظلها في ذاكرتنا.
الموضوع الواحد يمكن أن يكون دالا بعمق بالنسبة لكاتب ما، ومبتذلا بالنسبة لكاتب آخر، والموضوع الواحد قد يترك صدى كبيرا في قارئ ما، ولا يحرك ساكنا في قارئ آخر.
يمكن القول أنه لا توجد مواضيع دالة بشل كامل وآخرى مبتذلة تماما.
كلما سألوني كيف نميز بين موضوع مبتذل وموضع دال؟
أقول: إن الكاتب هو أول من يعاني من التأثير الغامض لكن المسيطر لبعض المواضيع، ولهذا بالضبط يكون كاتبا.
القاص أمام موضوعه، أمام هذه المضغة التي صارت حياة؛ لكنها لم تأخذ بعد شكلها النهائي.
بالنسبة له، هذا الموضوع له معنى ودلالة؛ لكن إذا ما اختزل الأمر في هذه الأشياء، فلا جدوى من ذلك.
الآن وكمحطة أخيرة في هذه العملية، ينتظره مثل حَكَم لا يرحم، القارئ، تلك الحلقة الأخيرة في سلسلة الإبداع، نجاح الدورة أو فشلها.
حينئذ يجب على القصة أن تُولد قنطرة عبورا، أن تقوم بالقفزة التي توّجه الدلالة الأولى، التي اكتشفها الكاتب، إلى الطرف الأكثر سلبية والأقل انتباها بل وأحيانا غير المبالي الذي نسميه القارئ.
عادة ما يتوهم بعض القصاصين قليلي الخبرة أنه يكفي أن يكتبوا بوضوح وبساطة موضوعا أثر فيهم، ليؤثروا بدورهم في القارئ.
يرتبكون سذاجة ذلك الذي يجد ابنه جميلا، فيظن أن الآخرين جميعا يرونه كذلك.
مع مرور الوقت، وتوالي الإخفاقات، يكتشف القاص الذي يتمكن من تجاوز هذه المرحلة الأولى الساذجة أن النوايا الحسنة وحدها غير كافية في مجال الأدب.
يكتشف أنه كي يخلق من جديد عند القارئ ذلك القلق الذي دفعه لكتابة القصة، لابد من حرفة الكاتب، وتتمثل هذه الحرفة، من بين أشياء أخرى، في خلق الأجواء الخاصة بكل قصة رائعة، تجبرنا على مواصلة القراءة، تشد الانتباه، تعزل القارئ عن كل ما يحيط به لتعيد بعد نهاية القصة ربطه بمحيطه بشكل جديد، خصب، أكثر عمقا وجمالا.
والطريقة الوحيدة للتمكن من الاختطاف المؤقت للقارئ تتم عن طريقة أسلوب يعتمد على التكثيف والتوتر، أسلوب تتطابق فيه العناصر الشكلية والتعبيرية، دون تساهل، مع طبيعية الموضوع، وتمنحه شكله البصري والسمعي الأكثر تغلغلا وأصالة، لتجعله فريدا، لا يُنسى، وتموضعه للأبد في زمانه ومكانه، وفي معناه الأكثر أصالة.
ما أسميه كثافة في القصة يتمثل في إقصاء كل الأفكار والمواقف الوسطى، كل الحشو والجمل الانتقالية التي تسمح بها الرواية بل وتشترطها.
مهما كان القاص محنكا وصاحب تجربة، إذا أعوزه الدافع الحميمي، وإذا لم تصدر قصصه عن تجربة حياة عميقة؛ فإن عمله لن يكون سوى مجرد تمرين جمالي.
*أصل هذه التأملات محاضرة ألقاها القاص خوليو كورتاثار في كوبا سنة 1962م.
من كتاب في نظرية القصة.