للتو انتهيت من ديوان الشاعر السعودي جاسم الصحيح (قريبٌ من البحر بعيدٌ من الزرقة).
وجاسم شاعرٌ سعودي حصل على أكثر من جائزة محلية وعربية ودولية.
علاقتي مع الشاعر في الشعر قديمة قدم علاقته بالإبداع، فلقد قرأت له ديوانه (ظلي خليفتي عليكم) ثم أتبعته بديوان (ما وراء حنجرة المغني) الذي قرأته قراءة انطباعية؛ ولكن هذه القراءة لم تنشر.
الشاعر جاسم الصحيح شاعرٌ فحل ويستحق أن يضمه السجستاني لكتاب الفحول؛ لأن الفحل هو من كان له ميزة على غيره، والصحيَّح كذلك.
والحقيقة أنه جاسم –هداه الله- أفسد الشعر بقوله إذ لم يجعل بعده حجة لقائل، ولا شعرا لشاعر.
جاسم هو حامل لواء الشعر لدينا؛ فإن كانوا يفتخرون بنزار، وشوقي، فنحن نفتخر به.
هو ضخم الجثة كضخامة جثة قصيدته، يكتب بماء الإبداع، ويبحر بسفينة لا كسفينة نوح، لم يركب أحدٌ معه، وحيدٌ في فلوات التميز، وهو من القلائل الذين يكتبون القصائد الطوال التي تتجاوز الخمسين بيتا، وهو مع ذلك يزيد توهجا.
إبداعه نوعي، ثوري، يثور على الأفكار الوضعية القديمة، فيكتب قصيدة لأصحاب سرطان الثدي فيقول:
تدلَّى مثلما ثمرٍ شجيٍّ
على فننٍ، يغازل مجتنيه
وكان عليه تاجٌ من زبيبٍ
يتيه فيستفزكِ أن تتيهي
إلى أن يقول:
إذا وخزتكِ من ماضيه ذكرى
بكى الثدي السليم على أخيهِ
حتى أن صاحبي لما سمع القصيدة كاملة تمنى لو أن له ثدي وأنه فقده لجمال القصيدة، فانظر بالله عليك ماذا يصنع هذا الجاسم في الرجال فضلا عن ربات الخدور.
ويكتب في الرقص فيقول:
إن زاركِ اليأس إن أزرى بكِ الندمُ
لا تشتكي فلديكِ الخصر والقدمُ
قومي فما هي إلا رقصةٌ وإذا
جيش الهموم على ساقيكِ منحطمُ
ما عذر أنثى أصاب الحزن بهجتها
إن لم تكن بمزاج الرقص تنتقمُ
ويكتب في تويتر، وغيرها من المواضيع الجديدة، وأيضا يكتب في مواضيع تقليدية لكن بإسلوب حداثي رائق كقوله من مرثية في الدكتور عبدالهادي الفضلي:
صبوا على مثواه باقي حبرهِ
فلعله يرتاح داخل قبره
واستنجدوا بالبحر يكتب دوننا
مرثيةً تكفي لسيد دره
البحر يرثي البحر حيث كلاهما
أدرى بحزنٍ الموج ساعة جزره
والبيت الأخير يذكرني بأبيات لعبدالغني البشتي عندما رثى الشاعر الليبي إبراهيم الأسطى حينما مات غريقا:
قالوا طواكَ البحرُ قلتُ وهل ترى
للدر منزلةً سوى الدأماءِ
هم من كرائمها فعاد لأصله
عاف الرغام وسافيَ البيداءِ
فدعوه روحاً سابحاً لا تلحدوا
جثمانه في مهمهٍ غبراءِ
فالدرُّ موطنه البحارُ وإن يَبِن
عنها ففوق ترائبِ الحسناءِ
إنه يكتب الخمسين بيتا دون أن يقع في فخ التكرار،وسطحية المعنى، ورداءة الفكرة.
هو هداج شعري كلما زادت القصيدة طولا كلما زاد نفسه الإبداعي، فهو متعود على سباق المسافات الطويلة، فهو سباحٌ ماهر في البحر الشعري العميق.
كأني به يتحدانا نحن القراء أو يتحدى نفسه بهذا الطول الفارع في القصيدة، ومما يدل على إبداعه الشعري اختياره للقوافي الصعبة وجعلها طوع بنانه يتلاعب بها كيف يشاء، ولا أدري كيف شعور هذه القوافي وجاسم يطوّعها وهي التي استعصت سنين طويلة على غيره.
فمن ذلك قوله:
إذا دار ذكر الشوق دارت بي الرحى
فأسمع ما بين الأضالع جعجعة
وقوله:
ونحن مساكين السفينة شغلنا
نرمم ألواحا ونرتق أشرعة
المساكين والله نحن يا جاسم.
وانظر لقوله:
وأنا ابن فلاحين، خبرتهم
في الحرث منذ (الطين والبلِة)
الشوق، صيرناه (مِلتـ)ــــنا
ثم احترفناه على الملة
لقد حرفتنا جميعا على الملة، وهذا ليس بغريب على شاعر.
وقوله –تربت يمينه-:
قامت قيامة نجوانا وصيح بنا
هذا الصراط فيا أهل الهوى جوزوا
حينما تقرأ مثل هذا البيت تفكر –جديا- ببيع البلوط في شرق المريخ، أو أن تحترف تسويق العقارات في مثلث برمودا.
أتمنى أن يموت قريبا لكي يتيح لإخوانه الشعراء المساكين ما بقي من كعكة الشعر التي ألتهمها حتى ظهرت على جسده.
الكتاب من القطع المتوسط يقع في 318 صفحة من إصدارات دار ميلاد الصادر عام 1439هـ.
لم أقرأ له ديوان الى الان ولكن دائما ما اتابع شعره على التويتر بمقالتك هذه شوقتني لأقرأ له شكراً استاذ حاتم
ابيات احبها لشاعرنا :
إنْ كنتِ لم تعهدي في الأرضِ مقبرةً
تمشي، فدُونَكِ يا حسناءُ (ديواني)!
هيَّا اقْلِبي صفحةً لكنْ على حَذَرٍ
إنّ الذي تقلِبينَ الآنَ جُثماني!
ثُمَّ اقْلِبي صفحةً أُخرى، سيُسعِدُني
أنِّي أُلاقيكِ في جُثمانيَ الثاني
هههههههه من أجمل اسلوب المدح العنيف لما قلت (أتمنى أن يموت قريبا لكي يتيح لإخوانه الشعراء المساكين ما بقي من كعكة الشعر التي ألتهمها حتى ظهرت على جسده.) اسعدتني الله يسعدك .. من شدة اعجبابي بها تمنيت ان تقال عني ..
في له بيتين شعر تتعبني الحقيقة في كل مرة اقراها
ملأتني بك حتى مسني خجلٌ
من فرط ماغازلتني أعين الناسِ
ماعاد يملأ رأسي خمر داليةٍ
صبي جمالك حتى يمتلي راسي
كل النساء أحاديثٌ بلا سندٍ
وأنت ،، أنت حديثٌ لابن عباسِ
الله الله من جماله =”((((