9مايو

المنصفات

المنصفات

بين يديَّ الآن كتاب الورقة لأبي عبدالله محمد بن داود الجراح، كتابٌ قرأته مرات عديدة وأعود إليه كل مرة لأنهل من معينه الصافي، ومورده الشافي.

فكرة الكتاب هي أن يترجم المؤلف لكل شاعرٍ بورقة واحدة فقط يذكر فيها اسم الشاعر وكنيته وبعضاً من أخباره وطرفه وأجود ما قال.

ولقد استوقفني خلال تطوافي في الكتاب ما ذكره عن البحتري حينما قال: «إن جيّد أبي تمام خيرٌ من جيدي ورديئي خيرٌ من رديئه».

وأيضا حينما قال له الحسين بن إسحاق: إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام، فقال: «والله ما ينفعني هذا القول ولا يضرُّ أبا تمام، والله ما أكلتُ الخبز إلا به، ووددت أن الأمر كما قالوا، ولكني والله تابع له لائذ به، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه».

عجبتُ والله من هذا الإنصاف الذي قلَّ وندر، ولم يظهر ويشتهر عند المتقدمين فضلاً عن المتأخرين.

إن هذه المقالة لمقالةٌ تدل على جوهر نفس البحتري وأنه صدق مع نفسه قبل أن يصدق مع الآخرين، وإن رجلاً يفضّل من يشاركه الصنعة لجديرٌ بأن يُحترم.

إنّا بُلينا في هذه الأزمان بمن يلبسوا غير لبوسهم، ويتزوّدوا بما لم يُعطوا ولا هو خليقٌ بهم.

إن الوعي الذي كان عند البحتري لا يقلل من قيمته ولا من قيمة شعره بل على العكس فهذا يعلي من شأنه وشأن هذه النفس التي اطّرحت الحسد وأيقنت بأن هناك الأفضل والأحسن والأجود.

قد رأيتُ مرةً مقابلة تلفزيونية مع أحد الشعراء وقد سأله المذيع عن شاعرٍ مشهور قد اختفى من الساحة الشعرية دون سبب واضح، وهل هذا الغياب له تأثير وماذا تقول له ليعود مرة أخرى؟ فكان الجواب الصادم بأنه لا يعرف الشاعر، والساحة لم تتأثر بغياب أحد!!

الغريب في الأمر أنه كان بينهما سجالاً في فترات مضت؛ ولكن هذا الجواب دلَّ على دنيوية نفس الشاعر ورذالتها وحقارتها، فليس من أخلاق العرب غمط حقوق الخلق، وإنكار ذوي الفضل منهم ولو كان خصما؛ بل إن هناك شعراً يسمى (شعر المنصفات) والمنصفة هي: «مقطوعة، أو قصيدة من الشعر يقولها الفارس مصوِّرا خصمَه، أو خصومَ قومه، محاولا إنصافهم بإعطائنا صورة حقيقية لشجاعتهم ونبلهم». فمن ذلك ما ذكره أبو تمام في حماسته لزاهر أبي كرم التميمي عندما قتل خصما يقال له تيم فأنشد فيه قائلا:

لله تيم أي رمح طرادٍ
لاقى الحِمام به، ونصل نجادِ

ومحشَ حربٍ مقدم متعرضٍ
للموت غير محردٍ حيادِ

كالليث لا يثنيه عن إقدامه
خوف الردى وقعاقع الإيعاد

وأيضا ما ذكره الأوسي في كتابه زهر الأكم في الأمثال والحكم عن دريد بن الصمة حينما قال لربيعة بن مكدم: أيها الرجل، إنّ مثلك لا يُقتل، ولا أرى معك رمحا، والخيل ثائرة بأصحابها. فخذ رمحي هذا، فإني منصرف إلى أصحابي فمثبطهم عنك. فرجع دريد إلى أصحابه وقال لهم: إنّ صاحب الظعينة قد حماها وقد قتل أصحابكم وأنتزع رمحي ولا مطمع لكم فيه، فانصرفوا، فقال دريد بن الصمة:

ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله
حامي الظعينة فارساً لم يُقتلِ

أردى فوارس لم يكونوا نهزةً
ثم استمر كأنه لم يفعلِ

متهللا تبدو أسرة وجهه
مثل الحسام جلته كف الصيقلِ

وترى الفوارس من مخافة رمحه
مثل البغاث خشين وقع الأجدلِ

يا ليت شعري من أبوه وأمه
يا صاح من يكُ مثله لا يُجهلِ

وكما قال بعضهم:
سقيناهم كأسا سقونا بمثله
ولكنهم كانوا على الموت أصبرا

وهذا والله عجيب، فقد أثبت لعدوه الصبر واعترف لهم بالشجاعة، وهذا في غاية الإنصاف.

وكما قال الإمام مالك: الإنصاف عزيز.

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    7 تعليقات

    1. في زماننا إذا ماقال الشاعر (من هو فلان لا أعرفه) فهو ليس بشاعر بإعتقادهم!!كأن ذلك سينقص منه او يزيده ،كأن ذلك الإنصاف والمدح وإنزال الناس منازلهم ينزل من قدره وقيمته ،ماذا سيكتب التاريخ عن أمثالهم !!

    2. الانصاف عزيز
      فعلا هذه حقيقة أتمنى لو تطبق في واقعنا ، ان ننصف حتى من هم ضدنا
      و ان ننظر بعين العقل لا بعين القلب

    3. سبحان الله وبحمده ?

      إنّا بُلينا في هذه الأزمان بمن يلبسوا غير لبوسهم، ويتزوّدوا بما لم يُعطوا ولا هو خليقٌ بهم.?

    4. الإنصاف خلق رفيع وصفة رائعه
      بالإنصاف يتسع الأفق , ويعلو القدر , ويسود الودّ
      ويتحقق إحسان الظن بالأخرين
      وإذا نزع إنقلبت المفاهيم الجميلة إلى مفاهيم قبيحة عقيمة .
      ومن اعظم وأبهى صور الإنصاف موقف السيدة
      زينب بنت جحش في حادثة الإفك وكانت منافسة للسيدة عائشة.
      تقول السيدة عائشة: حين سألها النبي عليه الصلاة والسلام عن أمري،
      فقال: يا زينب, ماذا علمت أو رأيت من عائشة؟
      فقالت: يا رسول الله,ما علمت إلا خيراً،
      قالت عائشة: وهي زينب التي كانت تنافسني في مكانتي
      في قلب رسول الله ..♥️

      وفي الحديث ((لايؤمن أحدكم حتى يحب ل أخيه مايحب لنفسه ))

    5. جميل أن نعترف بمزايا الآخرين وفضلهم، إذ لاينكر الفضل إلا جاحد.. نكران جميل الآخرين من الخصال المذمومة جدًا،، على عكس الإنصاف الذي يعطي كل ذي حق حقه ويزكي النفوس من الحقد والكراهية..
      أما شعر المنصفات فهو شعر راقٍ جدًا، حيث يصبح العدو صديق بذكر محاسنه والاعتراف بها!

      مقال رائع!

    6. ‏يقول ابن حزم :
      «مَن أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه،
      فإنه يلوح له وجه تعسفه».

      مقااال جميل يعطيك العافيه استاذ حاتم?

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *