25نوفمبر

أسير أسيرا بدهشتي

أسير أسيرا بدهشتي كأني أحلّق بجناحين من ريش قصيدة لعدنان الصائغ.

عدنان الصائغ حاضر في وجدان ومخيال القارئ، حينما رأيت له ديوانا جديدا قلت ماذا يمكن أن يفعل أكثر؟
هل ما زال يملك دهشته القديمة؟
وللإجابة على هذا السؤال، اشتريت هذا الكتاب، وليتني لم أفعل!

أنا متعود على الدهشة قصيرة المدى؛ لكن عدنان متعود على الدهشات طويلة المدى وبعيدة المغزى، كأثر الفراشة لا يزول!

الكتاب كما هو مكتوب في الصفحة الأولى للكتاب يحتوي على (قصائد قصيرة/ الومضة/ الهايكو/ تكوينات/ تنويعات/ تشكيلات/ مرايا).

وأنا كقارئ مستفيد من كل هذا الثراء والتنوع.

ربما الملاحظ في هذا الديوان أن القصائد القصيرة والهايكو كتبت قديما ما بين أعوام 84 و94 تقريبا.

والذي شدني أكثر هي البلدان التي زارها وكان يذيّل قصائده بأسماء البلدان والمدن، فهو مرة في مالمو وأخرى في مسقط وجدة ولندن وبيروت وبغداد وستوكهولم ودمشق ولندن…إلخ، فهو إلى ذلك شاعر المنافي، حمل على كتفه عصى التسيار، وفي كل مدينة يحمل جثث قصائده على كتفه، وهذا حِمل ثقيل جعله دائما يترقب الباب ويتحسس رقبته ليتأكد أنها موجودة، وهو إلى كل ذلك وحيد، وحيد جدا إذ يقول:
لست وحيدا
وحدتي
معي

وحدتي
مليئة بالنوافذ
أطل منها عليَّ

حينما قال:

السنابل التي اهتزت فرحا بالنضوج
المناجل
أكثر فرحا منها..

جاء بعده ابن جلدته حسام البطاط وقال:

تمايلت حول أزهاري مناجلهم
أنّى التفتُّ
وكف النار جلبابُ

في كثير من الأحيان هو فيلسوف أكثر منه شاعرا لأنه يبسّط الحياة على القراء، وهكذا هي الفلسفة -الحقيقية- هي تقريب الحياة للإنسان البسيط:
إذا كان
رأسك
من زجاج
فلا
تناقش
الناس
بالحجارة!

إنه يكشف أصحاب الطموحات الرخيصة الذين أمطروا أسماعنا بفضائل الزهد ليأكلوا مائدتنا ويأكلونها معها:
يعدوننا بالجنان الواسعة
كي يسحبوا من تحتنا الأرض

الأديب في عداء دائما لأن الساحة الثقافية منذ الأزل مسكونة بالحسد:
أعداء كثيرون
من حروب لم أخضها
من أي أتيت لي بهم
أيها الشعر؟!

ويقول في أخرى:
أقل قرعة باب
أخفي قصائدي-مرتبكا- في الأدراج
لكن كثيرا ما يكون القرع
صدى لدوريات الشرطة التي تدور في شوارع رأسي
ورغم هذا فأنا أعرف أعرف بالتأكيد
أنهم سيقرعون الباب ذات يوم
وستمتد أصابعهم المدربة كالكلاب البوليسية إلى جوارير قلبي
لينتزعوا أوراقي
و….
حياتي
ثم يرحلون بهدوء

وهذا يذكرني بما قاله جمال حسين علي عن عداوة المثقفين لبعضهم:
(إن أخطر عدو للمثقف، مثقف مثله، يقلل من شأنه، ويمنع كتبه وحتى يحرقها، ولا يفعل هذا سوى مثقف مثله. إن تاريخ المثقفين مرير بالأمثلة..وما إن تحتدم المواجهة بين مثقف والسلطة الغاشمة، فأشد الطعنات وأقساها غدرا، سيتلقاها من مثقف مثله، وليس من عتاة الأمن. وهذه مصيبتنا، المثقف يضربه مثقف مثله، وليس حاكم أو جلاد).

يقول في نص عن المرآة:
في الصبح
أرى شخصا يشبهني
يتطلع في وجهي
أضحك ك ك
يضــ…ـحك ك ك…
أين ستذهب؟
خذني ني ني ني
فأنا لا أقدر أن أبقى وحدي في المرآة

وأنا قلت ذات مرة:
حينما أكون أمام المرآة لا ألْحَظُني..
البيت مليءٌ بالمرايا، لكن مرآتي الداخلية مكسورة..
لطالما قلت إن الروح أبيضُ لونُها،
ما بال روحي سوداء في المرايا..
روحي سوداء لا تظهر عليها الكدمات..
أنا غيرُ مرئيٍّ حتى على مقعدة السيارة،
لا أربط حزام الأمان، والسيارة لا تُصدِر صوتًا..
أقف أمام الباب الكهربائي ولا يُفتح لي،
الأشعة الحمراء لا تراني..
أنا مجهول حتى عند الأبواب..
حينما تأخرتُ عن الباص، رجع الباص
وحملوا الحقيبة وتركوني..
على الرصيف تركوني
من منَّا خذل الآخر؟
أريد إزميلًا ليَنْحِتَني على بوابة الرؤية
مُنحت زنبيلًا لأغتسل، اغتسلت وذُبْتُ
لأني:
تراب
تراب
تراب

ثم قال نصه العابر للقارات الذي شاع وذاع بين الناس:
آيات نسخت
آيات
وتريد لرأسك أن يبقى
جلمودا
لا يتغير والسنوات

والملاحظ أن القصائد التي يكتبها الشاعر في البلاد العربية يكون فيها الكثير من الخوف والترقب وذكر الشرط والمخافر والدوريات والعنابر وقبضة الأمن على عكس القصائد التي تكون في البلاد الأخرى، والحقيقة لا ألومه كثيرا.

قصائده التي قالها في مالمو تستحق الدراسة، إنها عظيمة:
أنحني كالقوس
على نفسي ولا أنطلق
أشياء مريرة تشدني إلى الأرض

حينما يكون في السويد يتحدث عن الطبيعة والأشجار والغبار:

بلا أجنحة
يطير الغبار ساخرا
من آلاف الأشياء التي تركها على الأرض..

ويتفق مع المثل الألماني الذي يقول (في رأسي فكرة ستحوز على الأوسكار):
في بال النمر
فرائس كثيرة
خارج قضبان قفصه
يقتنصها بلعابه

ماذا يفيد الماضي المضيء إذا كان الحاضر باهتا ومظلما:
ما الذي يعنيني الآن
أيها الرماد
أنك كنت جمرا

وهو مسكين لم يعد لديه أصابع:
لم تعد في يدي
أصابع للتلويح
لكثرة ما عضضتها من الندم

حينما تكون الأجساد حاضرة ولكن القلوب لها نوايا أخرى:
هكذا نجلس
متقابلين
أصابعنا متشابكة
وقلوبنا تهيئ حقائبها للسفر

وعدم وجود خطة لن يصل بك إلى أي مكان ولا إلى أي نتيجة:
الأقدام التي تسير في كل اتجاه
لا تصل.

احذر ثم احذر من أصول الأشياء:
في الفحم نار حبيس

وعدنان ضعيف جدا أمام الصبايا وهذا الضعف موجود في أكثر من موضع:
عمرٌ
أو عشرة أعمار
لا تكفي
ياربي
كي أشبع من صحن أنوثتها
فامنحني إياها
بدلا من حورك
والأنهار
أوليست لي حرية أن اختار


من امرأة إلى امرأة
ومن رصيف إلى رصيف
أمشي
قاطعا حياتي
سيرا على الأحلام


يرتبك
أمام تدويرة ردفيها
ولا يرتبك أمام تدويرة الكون؟


تجلس في المكتبة
فاتحة ساقيها
وأنا اقرأ..
ما بين السطور

من قرأ هذه القصيدة يعلم لماذا عدنان هو شاعر المنافي:
كل عام
يقف بابا نوئيل
على باب الوطن
ويدق
يدق
لا أحد
الآباء بكّروا إلى مساطر الحرب
الأمهات هرمن في القدور الفارغة
الجنرالات ذهبوا إلى الإذاعة
يلقون الخطب والتهئنات
والأطفال يئسوا
فناموا قرب براميل القمامة
يحملون بهدايا
تليق بطفولاتهم المؤجلة

الحقيقة أنني توقفت عن الكتابة لأني تعبت في تسجيل جماليات القصائدة الموجودة، ولم أذكر منها إلا القليل، وإلا فالديوان مليء بالقفشات والرهزات والدهشات؛ لكنني أضعف من أجرد كل هذه الجماليات، وهذا شبه متعذر لأن نصوص عدنان ثوّاره دوّاره لها ألف معنى..

الديوان من القطع المتوسط من إصدارات دار سطور للنشر والتوزيع، يقع في 258 صفحة، الصادر عام 2015

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *