من يستطيع أن يمر مرور الكرام على عنوان كهذا؟
عنوان جاذب وصادق في آن واحد؛ لأننا كلنا نعرف أن هذا السؤال هو انعكاس لواقع مأزوم بين المثقفين.
هل هذا عنوان جاذب لمحتوى سخيف؟، لا، لم يكن كذلك، بل هو عنوان قوي مشتق من قوة بدن الكتاب.
عادة المؤلفين يبدأون بملاطفة القراء في البداية وباعتذارات لطيفة بأنه إن كان هناك من خطأ فمن نفسي والشيطان وعلى هذه الشاكلة؛ لكن جمال حسين علي بدأ بداية قوية جدا من أول صفحة ويقول: إن الخطر الأكبر الذي يهدد الثقافة، ليس الإنترنت ولا التلفزيون أو السينما ولا أي تطور تكنولوجي، أكبر الأخطار هو “الثقافة” نفسها حينما تُقدّم على نحو سيء.
إن الإبداع تراجع، ليس لتدني الذوق أو ندرة المواهب، بل لتراجع القِيم والمُثل العليا في كثير من وسائل النشر المهتمة بنشر المحتوى والمؤثرة في الوعي الجمعي لمجتمعنا المعاصر الذي وجد صعوبة في نهاية المطاف في التفريق بين الثقافة الحقيقية، والمزيفة، والعميقة والسطحية.
وعلى هذا فهو يلوّح بساطور نقدي بين السطور، وهو لا يمشي الهوينا بل يتعجّل؛ لأن الموضوع الذي يناقشه لا يليق به إلا التلويح بالساطور.
ومن الصفحات الأولى يتضح لنا مدى سعة مقروئية الكاتب فهو يستعرض ويستشهد بالكثير من المؤلفين والكتب مثل: سعيد مهران وسيد الرحيمي ولليف تولستوي وهوغو وبرونتي وسارتر والبير كامو وغيرهم الكثير.
ويعجبني كثيرا ما قاله عن النقاد المعاصرين: إنهم يتجنبون في الغالب الكتابة عن المستقبل، لأنهم منشغلون بالجدل عن أشكال السرد المعاصرة، فيما الأدب والفن يتدفقان أسرع من تفكيرهم.
وباعتقادي أننا لم نستفد كثيرا من أغلب النقاد المعاصرين، إنهم مشغولين بأبحاث الترقية وأعباء الجامعة؛ ليسوا متفرغين لنا وللأدب الحقيقي!
أستطيع القول وبكل جرأة أن الأفكار الموجودة في الكتاب كثيرة جدا، وكثيرة على كتاب واحد، كيف لان قلبه أن يودع هذه الأفكار الطيّارة بين دفتين، المفروض بين أدفف (إن صحّ الجمع طبعا).
ما أعجبني حقيقة هو إعادته لتعريف المثقف حينما قال: يعتقد البعض أن المثقف من قرأ كثيرا، والذكي من تلقّى تعليما جيدا وسافرا كثيرا، ويعرف لغات عديدة. لربما يكون لديك كل ذلك لكنك لست مثقفا وغير ذكي، فالثقافة والذكاء عنصران داخليان لا يمكن امتلاكهما لو لم يكونا متأصلين في شخصيتك. لا يأتيان من المعرفة فقط، بل من القدرة على فهم الآخر. هذه القدرات تتجلى في النقاش بالاحترام والتصرف المهذب في الأماكن العامة، وبحماية الطبيعة، وبعفة المظهر واللسان، وصون حرمات الناس، وحسن النية الواعية، وبإنارة الآخرين بمعارفك وأن يفيد علمك الناس، وآلاف التفاصيل الأخرى.
لقد تحدث بفصل كامل ليفرّق بين المبدع والناقد، والحقيقة أنه مسح بالنقاد بلاط بهو الثقافة، ولقد استعداهم بشكل مخيف، وكانت لغته في هذا الفصل تحديدا لغة حازمة إلى أبعد مدى.
ويجيب على سؤال الكتاب: لماذا يكره المثقفون بعضهم؟
لأنهم -المثقفين- سادة ذر الرماد في العيون، وهم أساتذة التظاهر بالمساعدة، لا ينشر لك ندوة مرموقة وصورة كتابك الرصين، لكنه يسلط الضوء على أتفه ما فيك.
المثقفون أساتذة الشللية والانتقاء وسادة المعايير المزدوجة، ويملكون حصريا ابتكار عبادة الفرد قبل الساسة، هم أول من صنع الأصنام التي يأكلونها.
ويكمل ليقول: إن أخطر عدو للمثقف، مثقف مثله، يقلل من شأنه، ويمنع كتبه وحتى يحرقها، ولا يفعل هذا سوى مثقف مثله. إن تاريخ المثقفين مرير بالأمثلة..وما إن تحتدم المواجهة بين مثقف والسلطة الغاشمة، فأشد الطعنات وأقساها غدرا، سيتلقاها من مثقف مثله، وليس من عتاة الأمن. وهذه مصيبتنا، المثقف يضربه مثقف مثله، وليس حاكم أو جلاد.
ولعل من أجمل وأروع الفصول التي قرأتها في حياتي هو فصل (التواضع الثقافي) والذي قال فيه: يعد المختصون في التواصل بين الثقافات أن تعلم احترام الثقافات الأخرى والتفاعل معها هو شكل من أشكال التواضع الثقافي الذي يقابل الكفاءة الثقافية والأهلية الثقافية.
لقد أصبحت فكرة (اللياقة الثقافية) شائعة كطريقة لمساعدة الأشخاص على التفاعل مع أولئك الذين يختلفون ثقافيا عنهم.
هذا الوعي والانفتاح الثقافي سيساعدك على التنقل بنجاح في الاختلافات الثقافية التي ستواجهها في بيئات مختلفة، وهو أمر حيوي للعمل وبناء العلاقات مع أشخاص من ثقافات مختلفة.
وبذلك فالتواضع الثقافي يساعدنا على فهم الناس من الثقافات الأخرى والتواصل معهم بشكل فعال.
هذا الكتاب وثيقة مهمة للغاية ولو كان لي الأمر لعممته على جميع المثقفين بوجوب قراءته؛ لأن هذا الكتاب لا يعطي مسكّنا للألم؛ بل هو ينظف الجرح بسكب كميات كبيرة من الملح.
الكتاب من القطع المتوسط لمؤلفه جمال حسين علي، يقع في 221 صفحة من القطع المتوسط، من إصدارات دار صوفيا، الصادر في 2023.