6أكتوبر

سأزرع في الريح قمحي

لطالما كان الشعر وجهتي الوحيدة، وغايتي النبيلة، اغتسل بالشعر كلما أردت الطهارة من أدران الحياة..

كيف لي وأنا في معرض الرياض الدولي للكتاب 2023 أن أمر على هذا الديوان ولا أقتنيه (سأزرع في الريح قمحي)، العنوان شاعري ويدخل القلب برهافة..

بلا شك أن علاقتي بالأدب العماني قديم، وحبه في الفؤاد مقيم، فأنا أحب الأديب محمد بن راشد الخصيبي “بشقائق نعمانه” و”بزمرده الفائق”  وأبي مسلم البهلاني، وأحب الأخير لأنه فضّل النثر على الشعر، وهو الشاعر العملاق.

سأزرع في الريح قمحي للشاعرة العمانية شميسة النعماني، وهذا الديوان خليط بين شعر التفعيلة والشعر الكلاسيكي، وتبدأ الشاعرية من الإهداء:

إلى المفتونين بالحياة
إلى اللامكتثرين بالموت،
إلى الأرواح/ الجنة، والأرواح، اليباب
أهدي الريح..والقمح
فبعثروهما حيث شئتم..أو شاءت الحياة

غلاف الديوان

نحن العاديين نتلفت إلى الحزن؛ لكن الحزن عند شاعرتنا هو الذي يلتفت:

يتلفّت الحزن الذي في ريف قلبي وحده،
حتى إذا اتّسعت مساحاتٌ يضيقُ..

مشاعري متضادة أمام الحزن الضبابي، تركيبة البيت حلوة؛ لكن الحزن ليس ضبابي:
يا أيها الحزن الضبابي الرفيق
مهلا على الإنسان،
والإنسان ممحونٌ بخطوته إلى الأشياء،
مرتبكٌ من المولى،
ومن أعراف قومٍ لا تطاقُ ولا تطيقُ

وهنا تقف الأنثى لتعبّر عن وجودها وتعرب عن قلقها في أنها لا تستطيع أن تصرّح بمشاعرها؛ لأنها لو فعلت ذلك: غضب الأموات، وتباكت العادات، وهذا هو الحال -غالبا- في عالمنا الثالث:

أو قالت الأنثى لعاشقها (أحبك) في الملا
ارتجفت موازينٌ،
وعاداتٌ تباكت،
وانبرى من قبره السلف العتيقُ

ثم إنها تناجي ربها برهافة الأنثى، وبطلاقة الشاعر:
سأقول لله الكبير أنا الصغيرة فاحتملني
صفحةً فرّت من الكراس تبحث عن جمالك في التجلي

لكن الجلّاد خلفي..
إن ظهري لوحةٌ مثقوبةٌ ما بين طعنات ونهشِ..

الجلاد في حياة المرأة لا يمكن أن يموت، وهو يتقن بحرفنة الطعن والنهش في “الخلف”..

ومن أعظم ما قيل في تصوير الحزن والتصاقه قولها:

كل النهايات تُشفى من بدايتها
إلّاه يشقى بحزن فيه كالنسبِ

لا شيء أشد من النسب “والحزن”..

هي تعلن بكل قوة أنها ليست ظلا، ولا تجلس على دكة الاحتياط، وهي الأولى وحدها:

أنا لست ظلا
لستُ زاوية احتياط كلما تعب الحصان الأصل عوّضه الصهيلُ..

أنا وردة في الضوء..متنٌ في الكتاب
ولا خصوم لديّ أكثر من هوامش مستباحٌ محوها
لتعيش في المتن الأصول..

لا أرتاد دربا ليس لي وحدي..
وحتما ليس يرضيني البديل..

هي موحّدة في الحب، ولا تقبل الشرك!

إنها غير منفصلة عن تاريخها وتراثها فتقول في (قفا نبكِ):
قفا نبكِ ما بين فاصلة في الكلام وبين السحر
وما بين حزن الرصيف،
ولحن الحيارى على شعلة من سهر
قفا نبكِ..
يا أيها الواقفان على صوت قلبي ورمش الضجرْ
فإن لنا في البكاء -الذي لا يُرى- قِبلة أو سفرْ

هي تريد أن تؤكد أن لها صوتها الخاص، ويعجبني هذا الاستدعاء التاريخي، وكذلك يعجبني حال القصيدة معها ونلاحظ بكل وضوح نضوج القصيدة العربية من قفا نبك امرؤ القيس إلى قفا نبك شميسة النعماني.

وتقول لتؤكد أن الهم النفسي له أثر على التعب البدني:
أيا قلبُ..
موجوعةٌ قامتي
والقصائد موجوعةٌ في دمي..
والضفائر منسدلٌ حزنها..

وأحب استخدامها للكلمات التي توجد في بيئتها وحتى استخدامها للكلمات المحكية، ونادرا ما نرى شاعر الفصحى يستخدم الكلمات المحكية مع أنه يتحدث بالمحكية في حياته اليومية؛ ولكن الشعر دائما يكون بمنأى عنها وكأنها لقيط..

أحب استخدام الأرض والمفردات التي تدل على البيئة الجغرافية كقولها:
فلا تيأسي كاليتامى..
ولا تيبسي كالسَّعفْ..!

الله ما أحلى السعف هنا..

وتقول في موضع آخر:
ولا بأس أن تطفئي الأسئلة
فإن خيام البداوة فينا..
وإن حجبت شمس صحرائنا شرفةٌ مثقلة!

وقبلها قال محمد الثبيتي:
وتلك في هاجس الصحراء أغنيتي
تهدهد العشق في مرعى شويهاتي

أتيت أركض والصحراء تتبعني
وأحرف الرمل تجري بين خطواتي

إن الاتكاء على البيئة في قصائد الشاعر تعكس التحامه بأرضه..وهذا الديوان يعكس بوضوح شاعرية الشاعرة بشكل مبهر.

الديوان من القطع المتوسط، يقع في 68 صفحة، من إصدارات الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء الصادر في عام 2018.

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *