لا يمكن أن يجيء معرض الرياض الدولي للكتاب ولا أيمم وجهي نحو الدور العراقية؛ لأني هناك تحديدا أجد الشعر يفيض من جنباتها، لا يمكن أن تذهب هناك وأنت لا تجيد السباحة؛ لأنك ببساطة ستغرق بين أنهار الشعر.
دخلت دار سطور وإذا ديوان حسام لطيف البطّاط (ستهجرك البلاد) يطل في وجهي ويغازلني أمام الجميع، وأجمل ما في دواوين الشعر أنها لا تغمز في الظلام، وأنا أحب الجرأة في المغازلة!
من البداية وحسام يصيد الدهشة ويفوز بالإعجاب:
حينا تبعثرني الوجوه
وتارة
أعلو على صدر السماء نبيَّا
أتفقد الآتين
أسأل صمتهم:
أتمر مملكة السحاب عليّا؟!
أم أنني وحدي الذي
من عمق هذا الكون
جئت شقيّا؟
أحسو دخان الموت
يعبث في دمي
إزميل أسئلة يمر عتيّا
إنه ليس من الشعراء الذين يخبئون دهشتهم في منتصف كتبهم؛ لأنه يملك دهشات كثيرة، ومن ثقته بنفسه يقدمها في أول قصيدة؛ لأن لديه مخزون كبير من الدهشة يستطيع أن ينثره على جنبات طريق القارئ من البداية إلى النهاية دون نقص في الميكال.
وكأي عراقي يجب أن يذكر النخيل:
والنخل
ينشر في السماء عذوقه
وعلى شراع الغيم
تعلو مئذنة
من خطَّ في الألواح
أن مدينتي
كم أنجبت رجلا هناك
لتدفنه؟!
وطنٌ
يعمّد بالجراح
غصونه
ويشيد من دمها
عروش السلطنة
النخيل يتكاثر في قصائد حسام:
وجهٌ وحيدٌ
على مرآة ذاكرتي
آوي إلى عطفه
إن مسّني كدرُ
ملامحٌ
من شموخ النخل
ما ركعت
إذا تساوت جباه الناس والحجرُ
ماذا فعلوا به الآخرين:
مرّوا سراعا
فداسوا عشب ذاكرتي
وغادروها
فقامت بعدها سقرُ
ساروا على ثلج أحلامي
فأوهنها
شفيف حزن
تلاشى حوله العمرُ
تطاول الليل
من يمحو غوايته
من علّم النأي أن الليل ينكسرُ
عمدا أطلت وقوفي
كنت أرقبهم
لعل أسرعهم يبدو له أثرُ!
أثقلتُ عمدا خطى قلبي
لألمحهم
مر الزمان على مهل
وما ظهروا!
ويقول في حكاية مدينة مهجورة وربما تكون هذه المدينة “بغداد”:
يقينك سُلَّمٌ
لفضاء عشقٍ
كأنك للرؤى جرحٌ يسوعُ
فما يغنيك أنك كنت أصلا
إذا هجرت منابتها الفروعُ؟
فيا خجل المدينة
حين تخبو
ليشرب ماء عفّتها وضيعُ!
تساقط
وجه رغبتها
ذليلا
وأدمن كسر قامتها الركوعُ
ستهجرك البلاد
وأنت فيها
وينكر وجه عودتك الجميعُ
لا يمكن للعراقي ألا يحزن؛ لأن الحزن مسكون في وجدان العراقي وفي مواويله:
أم أن حزنا عراقيا تلبسّّه
عمدا
وحزن العراقيين أنسابُ
تمايلت حول أزهاري مناجلهم
أنّى التفتُّ
وكف النار جلبابُ
والبيت الأخير يذكرني بما قاله عدنان الصائغ:
السنابل التي اهتزت فرحا بالنضوج
المناجل
أكثر فرحا منها..
حكاية من عراق النخل
جمرتها:
بأن كل حزين فيه سيّابُ
وأسلمت سببا للموت
وابتسمت
لأننا بعيون الموت أسبابُ
وهذه فكرة بديعة مبتكرة مخترعة، كلنا ننظر بعيوننا إلى الموت؛ لكن الشاعر وحده نظر بعين الموت فينا!!
والأفكار المبتكرة في هذا الديوان تتوالد وتتناسل:
ظنونك معولٌ
يغتال عمرا
وعاصفة المعاول لا تظنُّ
أصبح للمعاول عاصفة، إنه الشعر يا سادة!
ونختم الديوان ببيت من الحكمة:
وكم شاتمٍ
غطّى بشتمي سواده
فعاد ومن صمتي يلوح معايبه
وهذا فعل حسن، ألا ترد على الإساءة بمثلها، فالصمت كفيل بكشف معايب المسيء.
الديوان من القطع المتوسط يقع في 98 صفحة، من إصدارات دار سطور عام 2021.