حينما كان الإنسان الأول يجول في الغابات والكهوف يبحث عما يواري به سوأته لم يكن عنده آداب للسلوك؛ لأنه قبل هذا يفتقد إلى اللغة التي بها يستطيع أن يتواصل مع الآخر، ولما وجدت اللغة كانت اللغة تبعا إلى أشياء وجدت قبلها كالنار والنحت.
تطور الإنسان الأول وصار يعرف الزراعة والفلاحة ثم في مرحلة متقدمة التجارة، ومع مرور الحِقب والدهور أصبح الإنسان كائن شبه متكامل من ناحية الأخلاق والمهارات وكذلك السلوك.
ومن أجل أن البشر كانت بحاجة إلى بعضها فكان من البدهي أن يتم تنظيم هذه العلاقة فيما بينهم؛ ولذلك جاء مفهوم (آداب السلوك) وآداب الحوار ليتم الاتفاق عليها في عصرنا باسم (الإتيكيت) وهو علم آداب السلوك والمعاشرة وفن الحياة الراقية.
وكنت في بادئ الأمر أعتقد أنه فن حديث؛ لكنه صدمني حيث أنه فن ضارب في جذور التاريخ فلقد عرفته جميع الحضارات منذ الحضارة الفرعونية حتى عصرنا الحالي.
وبما أن العرب قديما وإلى الآن وهم يساهمون في إثراء المحتوى المعرفي؛ فإن هذا الفن كان موجودا عندهم (فن الإتيكيت) ولكن بأسماء مختلفة (آداب السلوك)، (وآداب الحوار)، (والآداب السلطانية).
ومن بركات معرض الرياض الدولي للكتاب أني وجدت رسالة آداب المؤاكلة لبدر الدين محمد الغزي (904-984هـ) والذي حققها الدكتور عمر موسى باشا والرسالة من منشورات دار الجمل عام 2008م وتقع في 78 صفحة من القطع المتوسط.
الجميل في هذه الرسالة كما قال المحقق أنها تحتوي على ما هو معروف في الحياة الاجتماعية من أسماء الأطعمة والمآكل والمشارب وما يتعلق بها من ذكر المائدة والسفرة والصِحاف والقصاع وغيرها، وزد على ذلك أيضا أنها توضح بعض العادات الاجتماعية والتقاليد الحضارية المرعية في عصر ننعته بالانحطاط والعقم والجمود والتأخر.
هذه الرسالة صغيرة في حجمها، وكبيرة في فائدتها، وهي شافية في فن اتيكيت الأكل.
ولعل من أقدم الكتب التي جاءت في هذا الفن كتاب الموشى الظرف والظرفاء لمحمد بن إسحاق بن يحي المعروف بالوشاء (المتوفى: 325هـ)، وفيه بيان لحدود الأدب وما يجب على الأدباء من الفحص والطلب والنهي عن ممازحة الأخلاء واتفاق القلوب على مودة الصديق وقلة الخلاف على الرفيق وغيرها من المواضيع الرائقة والفوائد الشائقة.
فإذا نظرت إلى تراثنا العربي وجدته مليء بالفوائد والخرائد، ولكن أين الصياد الماهر الذي يستخرج هذه الدرر المكنونة؟ ورحم الله أسلافنا الذين جاؤوا بالتليد والطارف، وتفننوا في شتى العلوم والمعارف.
تم نشر هذه المقالة في صحيفة الجزيرة الثقافية:
https://www.al-jazirah.com/2022/20221021/cm11.htm