تحولات الكتابة القصصية في السعودية: مجموعة “قصعوان” لحاتم الشهري أنموذجا
بقلم: أ.د. خالد التوزاني
لم تكن المجموعة القصصية الموسومة بـــ قصعوان، للأديب والمبدع السعودي حاتم الشهري، كتابة عادية بالمعنى المتداول للكتابة القصصية في العالم العربي المعاصر، وإنما سعت من خلال اختيارها المنهجي والفكري واللغوي إلى تحقيق فرادتها عبر آليات متعددة، تتقاطع مع جملة من الثقافات والمرجعيات، وفي الآن نفسه تعكس نضج ثقافة الأديب والمبدع السعودي بشكل عام، وتحديدا الكاتب حاتم الشهري على سبيل المثال، فهذه المجموعة القصصية وقد تضمنت ثمانية عشرة قصة قصيرة، إلى جانب المقدمة والإهداء، على الرغم من أنها قد جاءت في أربع وثلاثين صفحة، إلا أنها في التأويل أكثر دلالة وانفتاحا ويقتضي التلقي المبدع لها، تسويد صفحات وارفة الظلال، نظرا لما تختزنه من دلالات مكثفة ومعاني دقيقة وعميقة، تفسح المجال واسعا أمام كل احتمالات التأويل والتوسع والانفتاح، فضلا عن لغتها المشرقة ببلاغتي الإمتاع والإقناع، وجماليات العبارة المزينة بفسيفساء المحسنات البديعية من جناس وسجع وطباق وغير ذلك من الأساليب العربية الدالة على امتلاك ناصية اللغة وخبرة صاحبها بنصوص التراث ومعرفة بمواطن الجمال وحسن التأليف والبيان.
من خلال مقدمة “قصعوان” يؤكد الأديب المبدع حاتم الشهري أن السؤال والشك والبحث والتحري أصل في كل القصص، ولذلك لا نستغرب أن يكون الإهداء موجها إلى جنيفر مايكل هيكت التي كتبت “تاريخ الشك” في أزيد من 800 صفحة، ولاشك أن إعجاب كاتبنا بهذا الكتاب الموسوعة، دليل على رحابة الفكر “الحاتمي” (نسبة إلى حاتم الشهري) الذي يمتح من ثقافات معاصرة ومن فلسفات ورؤى متباينة، فيؤثر ذلك على إبداعه النثري والشعري، كما يظهر بوضوح في عمله الجديد: “قصعوان”، فالاطلاع على عتبات القصص في هذه المجموعة، نجدها عبارة عن ثنائيات لفظية، تتناص مع بعض الأساطير والأفكار الفلسفية والحكايات القديمة والثقافات الشعبية والقصص الإنسانية الذائعة الصيت، فنجد عناوين منها: حفار القبور، وصخرة الواقع، وفارس الأحلام، ومعمل الكون، وعلبة والأمنيات، وغير ذلك من العتبات التي تشير إلى خزّان من المعاني المتدفقة كالشلال؛ فصخرة الواقع تحيل على صخرة سيزيف، وحفار القبور مصدر للعجائب والمخاوف في كل الثقافات، وحوله نسجت الكثير من القصص المدهشة والغريبة، مثلما قيل الكثير عن فارس الأحلام، وعن علبة الأمنيات، وكذلك فكرة “معمل الكون” التي تحيل على قصة الخلق ومصدر الحياة، وما نسجته البشرية من قصص أصل الكون ونشوء الحياة، كل هذه الإحالات المرجعية المتباينة الثقافات والمتعددة المصادر، تجعل القراءة أكثر تشويقا وإثارة، وتفتح شهية التلقي المبدع لنصوص إبداعية مغرقة في الثقافة والفكر والشك والريبة، والجمال أيضا، فلا سبيل لاكتشاف المعاني المتدفقة من خلالها إلا عبر آليتي التأويل والتناص، واستدعاء المرجعيات الفكرية والثقافية لصاحبها الأديب المبدع حاتم الشهري.
تُحلّق المجموعة القصصية “قصعوان” بالقارئ في عوالم السؤال غير المتوقع، مادامت تسائل بديهيات الواقع وتستنطق جملة من المفاهيم الجاهزة، والتي يتداولها الناس على أنها حقائق مسَلَّم بها، وأمور لا يصح التشكيك فيها، فيكون السؤال لكمة أو صدمة، ليقف القارئ وجها لوجه أمام الواقع الحقيقي كما ينبغي أن يكون وكما يجب أن يُفهم ويُدرك، لا كما يُعاش أو يُتخيّل، فهو بمعنى من المعاني واقع مزيف، لا يصح أن نبني عليه معرفة صادقة، ولذلك كان السؤال في هذه المجموعة سؤالا صادما ووخزا عنيفا ولكنه لذيذ وممتع، ومحفز على الفكر والتأمل، خاصة وأن القصص قد جاءت في قالب لغوي إبداعي أقرب للحِكم وللأمثال، ويذكّرنا بالحِكمة الفلسفية التي تقدم عصارة التجربة الإنسانية في قالب حكائي مختصر ودقيق وأيضا في عبارات مدهشة وساحرة، تشير ولا تصرّح، وتومض ولا تحرق بصراحتها، وإنما تزرع الشك اللذيذ أو المرعب، لتحرّك بركة العقل الراكد، فلا تمل العين من قراءتها، والسفر في جغرافيا حوار العقل والواقع، أو العقل والقلب، أو العقل والحكمة، وما فوق الفلسفة والحقيقة، فهي قصص قصيرة جدا، تقتصد من حيث الكلمات ولكنها مسرفة في البوح باللكمات أو الأسئلة المدهشة والمحيّرة، وكأنها جرعات تنبيه أو وَخَزَاتُ إبر عاجلة ومتباعدة، لخلق يقظة الضمير ولزحزحة الفكر عن مألوف النظر ، فالشيء يبلى بطول الأنس كثرة المشاهدة، والألفة حجاب، ولذلك كانت قصص “عصفوان” في معظمها أسئلة تُطرح وملفات تُفْتَحُ، وتُحَاكَمُ أحيانا أو تحاكِمُ واقعاً مترديا، فمن أول قصة، وهي “حل مؤقت” يقف السؤال ماثلا كالمارد شاهرا سيفه الحاد، باستحضار معارف المدرسة التي لا تجد لها امتدادا في حاضر الإنسان وواقعه البئيس، ويقمع الأب سؤال ابنه لتموت الأسئلة، ووراءها يموت التفكير ويتوقف العمل، لتتوالى أسئلة الحفر في البديهيات، مع قصة “حفار القبور” وليصبح القارئ مثل حفار القبور، باعتبار القراءة التي لا تطرح الأسئلة مجرد دفن للفكرة وإقبار لها، مما يبرر سؤال: هل القراءة مضرة؟، وسؤال معكوس كما هو هذا السؤال، لا يمكن أن يكون إلا مستفزا ومقلقاً، لأنه لم يُطرح من قبل ولم يُنْتَبَهْ إلى أنَّ جوهرَ القراءة يكمن في إبداع الأسئلة والشك في المعرفة المتوارثة خصوصا أو المكتسبة من خلال النمط التقليدي في التربية والتلقي كالأسرة والمدرسة، إنها قصص تؤسس لمعرفة يقينية مرتبطة بالتجربة الإنسانية في بعدها العملي والمباشر والمحسوس والقائم على القطيعة بين معرفة جاهزة وأخرى تُبنى عبر المجاهدة والقراءة والصبر والأسئلة مهما كانت مفارقة ومختلفة ومقلقة، فالقلق المعرفي مطلوب لبناء معرفة تصمد عبر الزمن ولا تدفن في غياهب النسيان، أو كما يحلو لحفار القبور أن يفعل عندما لا يتأمل ولا يسأل، فيكتفي بالقراءة مرورا عبر الصفحات لا يتوقف حتى يُحْدِثَ حُفرةً ترتاح فيها جثت الأفكار وجثامين المعاني وتسع الموتى من الأحكام البالية والجاهزة لتكريس وضع سيء لا يريد أن يتقدم.
إن الاحتفاء بالشك وإعادة الاعتبار لقيمة السؤال، ملمح إبداعي وفكري واضح في “قصعوان”، بل يغدو هذا المنهج “مهمتك في الحياة”، كما تقول عتبةُ قصةٍ ضمن هذه المجموعة، فعندما تخصص رفاًّ كاملا تضع فيه قنينة الشك، بجانب قنينة الإيمان، وعلى اليسار هناك قنينة مكسورة اسمها الصبر. وهنا يقف المتلقي أمام ثنائية الشك والإيمان وكثير من الصبر على الصدمات، وخاصة تلك الصدمات الفكرية التي لم يجر العرف بتداولها أو تلك التي تكسر أفق الانتظار وتخرق المعنى المألوف والمتداول بين أغلب الناس، ففي قصة “الكعب العالي” ينتهي الحوار بين الصديقتين إلى الباب المسدود، عندما يغدو الماكياج الحقيقي هو الأخلاق، والفستان الجميل هو العِلم، والكعب العالي هو القراءة التي بها نرتقي ونرتفع، لكن “صخرة الواقع” قد لا تعترف بهذه الحقائق فتركز على ما هو سيء في الإنسان ثم تحاكمه بناء على ذلك، ولذلك تصبح العزلة عن الخلق بوابة للنجاة أحيانا من شر الخلق، وقد ورد في قصة صخرة الواقع: “تركته ينام لعله يجد في أحلامه ما لا يجده في صخرة الواقع”، وورد في “توهج الخفوت”: “أنت متوهج جدا ونورك يحجب نور الآخرين”، فعزلوه جانبا ولم يلتفتوا إليه، بل سعوا لتبخيسه وجَعْلِهِ خافتا مثلهم.
إن فلسفة الشك واستنطاق الأحلام والرؤى والتأملات العميقة في بعض مظاهر الحياة اليومية الرتيبة، وجدت مرتعا خصبا في ذاكرة الأديب حاتم الشهري، فخصص لها أكثر من قصة وأكثر من سؤال ومعنى؛ فنجد “أحلام يقظة” و”فارس الأحلام”، و “مضرجا بالأحلام”، وكلها وجع وأنين من واقع جاحد ومنكر لا يعترف إلا بما يغترف من لذات فانية، فكل الأحلام مؤجلة ومرهونة بفارس ما، قد يأتي وقد لا يأتي، فاللذة كل اللذة في مطاردة الحلم لا في الحلم ذاته، ومادام هذا الحلم مرتبطا بعودة الفارس فهو محبوب ومرغوب، ولذلك كان لا بد من تسليط معول الحفر في وجدان الإنسان وهو القلب، فنجد قصة “تعوّد الحب” لتعيد طرح مفهوم الحب من جديد وبرؤية مغايرة، تراه تعودا وألفة لا أكثر، ولتصدم بذلك الفهم المتداول والذي يبالغ في تمجيد الحب والمحبين، أما قصة “قلبي واللغة” فتمثل أوج عطاء الأديب حاتم الشهري عندما يسافر بالمتلقي في عوالم اللغة من خلال استنطاق الحروف وتحولاتها في الكلمات والجمل، مخاطبا في الآن نفسه محبوبته، فيراها بعين اللغة الناطقة، ويسبغ عليها المعاني عبر بوابة الحروف والمباني، فمحبوبته “مهمة كأهمية الميم في صميم، وكالنون لا زمة في بؤبؤ العين، وأما غيابها فحادٌّ كالحاء، فيخفيها عن أعدائه كاختفاء الألف في الرحمن”، ولا شك أن هذا النمط من الإبداع في تأويل اللغة، يذكرنا بما يُعرف عن المتصوفة من نحو القلوب، عندما أوّلوا قواعد العربية وقابلوا بينها وبين المعاني العرفانية، ومن ذلك قولهم: “وجوه الإعراب أربعة: الرفع والنصب والخفض والجزم. وللقلوب هذه الأقسام، فرفع القلوب قد يكون بأن ترفع قلبك عن الدنيا وهو نعت الزهاد. وقد يكون بأن ترفع قلبك عن اتباع الشهوات والمنى وهو نعت العباد (…) وأما نصب القلوب فيكون بانتصاب البدن على بساط الوفاق (…) وأما خفض القلوب فيكون باستشعار الخجل، واستدامة الوجل ولزوم الذل وإيثار الخمول (…) وأما جزم القلوب، فالجزم القطع، ويكون بحذف العلائق”2.
وللثنائيات الضدية حضور باذخ في “قصعوان” وكأنها انعكاس لما يحمله الواقع من تناقضات ومفارقات، فنجد قصة “جيفة حية” و “توهج الخفوت” و “الصدى والصوت” و “شقوة وحظوة” محطات للوقوف أمام عنف هذا الواقع المزيف في تغييب الحقائق، وفي الإمعان في الإنكار والجحود واللؤم، بالسعي إلى طمس الجمال وحضور اللامبالاة شعارا لدى الكثيرين، بسبب الألفة والأنس حينا وبسبب الكراهية والبغض أحيانا أخرى، ولذلك لم يقبل الآخرون توهج المصباح الصغير، فهو يكشف خفوتهم، كما يكشف سوأتهم في الركون إلى السكون والجمود، بينما هو نشيط ومشع بالنور ، ولذلك فإن “المسافة تُبقي جمر الشوق متوقدا”، و”ليس كل بُعدٍ شقوة وليس كل قرب حظوة”، وأن “الحياة المعلقة بابتسامة؛ حياة رخيصة”، فهذه الخلاصات بمثابة حِكم وذخائر من القول النفيس الذي يكتب بماء الذهب لما اشتملت عليه من عصارة التجربة الإنسانية وحصيلة الفكر والتأمل في مآلات الأمور ونهاياتها، فهي لا تُقرأ فحسب وإنما قد تُتَّخَذُ شعارا لدى البعض في مسارات الحياة، ومفاجآتها، وقد تشكل بوابات لإعادة توجيه كثير من الرؤى المتوارثة والأحكام المسبقة والجاهزة، في رؤية الكثير من القضايا، والكثير من الآمال التي قد تتحول إلى آلام إذا لم يحسن المرء القبض عليها بروح عقلانية، مثل “علبة الأمنيات” التي خلصت إلى صعوبة ادخار بعض الوقت إذا أدبر الدهر، مثلما يصعب ادخار الأمنيات إذا لم تتحقق، وكأن الأديب المبدع حاتم الشهري يريد أن يقول للمتلقي “كن أو لا تكون” أي اصنع واقعك بعيدا عن أنقاض الموتى وجيف الراقدين أو الحاقدين والمنكرين، ولا تلتف فإن الملتفت لا يصل، ولا تجزع، “ألا ترى كيف يجزع الورق حتى يصفرّ، ثم ينتحر بسقوطه على الأرض؟”، كما ورد في قصة “معمل الكون”، وكما جاء في قصة “وما أدراك” لتنقل المتلقي من مألوف التفكير إلى ما وراء الظاهر وما وراء المعتاد، “فما أدراك أن الكلب وفي، وما أدراك أن العصفور يغني..”، هناك دائما معاني مختفية وراء شقوق الحياة وفجوات اليومي والرتيب، تصيب المرء بالدهشة والحيرة، وبالصدمة، لكنها صدمة مطلوبة لأجل حياة واعية ومسؤولة، وليست من نوع الجيفة، أو التقليد أو التبعية، فتلك حياة لا يرضاها المبدع والمفكر حاتم الشهري، فكان سعيه حثيثا وطموحا نحو كسر أفق الانتظار لدى قارئ مجموعته “قصعوان” والتي دَشّنت لكتابة قصصية مفعمة بالفلسفة في بعدها العميق من خلال الحفر بالسؤال والغوص بعيدا عن السطح في اتجاه العمق وفي اتجاه الجوهر والمدفون لاستخراج الدرر والجواهر، وقد كان، بأن حفلت المجموعة بنفيس القول من حسن البيان وبلاغة الفكرة الجميلة وحسن الاستدلال وجودة الصياغة، فكانت بحقٍ “قصعوان” ذروة سنام حاتم وزبدة ما أنتج من روائع الأدب العربي الذي يستحق أن يكون عالميا من خلال ترجمة العمل ونقله إلى لغات أخرى، فهو إنساني الدلالات عالمي الفكرة كوني الخبرة الإنسانية، واستحق عنوان “قصعوان” الدال في العربية على اللؤم والجحود والنكران، إذ لا يختلف اثنان على ما يطبع عالم اليوم من نكران للجميل وتنكر للمعروف وتبخيس للمتوهج وللمضيء.
23/7/2018
أ.د. خالد التوزاني.
باحث أكاديمي، كاتب/ناقد، رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي -مساق-.