كنت قد شرعتُ في كتابة مقالة عن الفخر والإعتداد بالنفس عند المتنبي وسفر الدغيبلي، وقد انتصفت فيها إلا أن كثرة أبيات تعظيم الله في شعر الدغيلبي صرفني عن شأني الأول وعزمت على كتابة مقالة جديدة بعنوان “تعظيم الله والابتهال في شعر سفر الدغيلبي” لأنه لا تكاد توجد قصيدة لسفر إلا وفيها ذكر لله ودعاء وطلب واستغاثة، والابتهال كما هو في اللغة: هو إلحاح العبد في الدعاء لربه.
الذي يعرف سفر “شاعر المحاورة” يعرف أنه شاعر شرس وقوي بشهادة الواقع وباعتراف زملائه له؛ ولكن هذه الشراسة والقوة تذوب وتضمحل حينما يخاطب ربه، ويظهر العبد المتذلل لخالقه وهكذا يجب أن يكون الإنسان مع ربه.
إن رحلة سفر الإيمانية مع ربه في أبياته، رحلة كلها ثقة وأمل وتفاؤل بالعالم العلوي، ومعرفة تامة بنقص العالم السفلي.
سفر شاعر المحاورة، ينصهر في سفر شاعر النظم.
سفر حينما يدعو ويرفع يديه فلا يرفعها إلا لله فيقول:
يا الله يلي كلنا مرتجينه…يا واحدٍ ما خاب منهو ترجاه
نسألك ما غيرك أحد سائلينه…يا الله يارب المخاليق يا الله
عبدك ياربي رافع لك يدينه…يدعيك من قلبه ومخلص لك دعاه
سفر يعلم حدود وإمكانيات الإنسان، ويقر بأن الغيب لله وهذا من وحدانيته سبحانه:
ياظروف الوقت لو كل مانبغاه كان
يمدي الانسان يطغى على انسانيته
يبطش الدنيا ويعطي على الغيب الضمان
مير ذي تختص بــ ( الله ووحدانيته )
ربي اني مسني ضر بلوى وامتحان
عارضن ماتعلم الناس بخصوصيته
خالقي يستفحل السقم وانت المستعان
حرر العبد المكبل من عبوديته
والدغيلبي في بعض افتتاحيات قصائده يبدأ فيها بتعظيم الله سبحانه، والثناء عليه بما هو أهله:
لك مقاليد السما والأرض يامجري الهبايب
بإسمك اطلبك النجاه وبإذنك ارجيك الشفاعه
من لدنك العقل والتوفيق والحكمة وهايب
ماتشاهدها عيون الخلق وأجهزة الإشاعه
حينما يعتمد بعض الناس على ولده وابن عمه أو عشيرته، يبرز سفر ليعلنها أنه يعتمد على فالق البحر لموسى:
يافالق البحر عن موسى عليك اعتمادي
ادعيك بصفاتك العليا والاسما العظيمه
بدون حولك وطولك مااقدر ابلغ مرادي
متفائل بخير وعنايتك دايم كريمه
يارب زدني تمسك بالشيم والمبادي
وبدون بعض المبادي ما للانسان قيمه
حتى في قصيدته لأبنائه وهو الأب الرحوم يخرجهم من وداعته ويودعهم الله فهو خير حافظا وهو أرحم الراحمين:
يافلذات كبدي ياحشايش ضلوع الجوف
مودعكن الله ،، والله الطف بكن مني
وعلى رغم كل الظروف التي تحبط به، يبقى الدغيلبي معلقا قلبه بالله، وهو حسن الظن به ما دام أنه فوّض الأمر إليه:
شديد المحال يلوذ بك عبدك الملهوف
ليا قلت رب الخير ، خيرك سبق ظني
ويكرر هذا المعنى في قصيدة أخرى:
وبحول من يسجد لوحدانيته حتى الظلال
إني لانفذ مانويت ونعمة الله مسبغه
وسفر في حالة تجلّي، يعترف لربه بأنه مذنب كثير الذنب:
وأنا معترف واستغفر الله إذا زليت
لعل اعترافي له من النار ينجيني
وكما قيل الاعتراف يمحو الاقتراف، ولعل الله ينجيّه بهذا الاعتراف.
وينتقل سفر من الدعاء إلى المناجاة ليستعيذ ربه من الشيطان الرجيم:
أناجي إلهي وأتعوذ من الوسواس
يا ربي بيدك أقوى العلاجات وأطيبها
وفي خضم هذه الحياة المتسارعة، يهنئ من يستغفر في الثلث الأخير من الليل فيقول:
هنيّا لمن يستغفر الله بالأسحار
وينفض غبار الصدر ويصحح أعماله
طقوس العبادة تنعش المخ والأفكار
وتعطي الجسم طاقة مثل طاقة الآله
مع أن العبادة ليست طقوس، وإنما شعائر، ولكن ربما خانه التعبير وقلما تفعل القريحة مع سفر.
ولو أردنا استحضار هذا المعنى كله في شعر سفر لطال بنا المقام، وطال الحديث؛ ولكن الهدف ليس كذلك، وإنما الهدف إشارة وإلماحة إلى هذا المعنى الوفير والغزير في شعر الرجل، والذي قلما تجده عند شاعر آخر؛ بل إنك تجد بعضهم يكثر من ذكر الجيب والشاص والغنادير أكثر من ذكر الله في قصائده؛ فنحن إن ذكرنا هذا في شعر سفر فإنه معنى واضح ومستفيض، ومن حقه علينا أن نشيد به.
والخلاصة أن سفر ظاهرة شعرية لن تتكرر، وهو في الشعر الشعبي يذكرني بجاسم الصحيح في الشعر الفصيح.
فسفر ليّن الشعر بقوته، وقهر جبروت القالب الشعري، فتراه يجدد في الأوزان والقوافي والألحان.