15نوفمبر

ديوان الشعر التونسي الحديث تراجم ومختارات

لا يصح أن أذهب إلى بلد لأول مرة ولا اقرأ عن شعرائه.

هذه زيارتي الأولى لتونس الخضراء، تونس الشعر، تونس الأدب والأدباء، فكان لزاما علي أن اقرأ ولو على عجل بعضا من الشعر التونسي.

بحثت فوجدت ديوان الشعر التونسي الحديث تراجم ومختارات لمحمد صالح الجابري الصادر عام 1976 والكتاب يمتد إلى أكثر من قرن من الزمان بداية من 1821 حتى 1948 تقريبا وينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجيال شعرية تنوعت هذه الأجيال في ثقافتها ومكوناتها.

أعجبتني جدا مقدمة الكتاب التي عنون لها المؤلف بـ (الشعر أول المعرفة…وآخرها).

نبدأ مع محمد الشاذلي خزندار وهو يتغني ببلاده الجميلة:
أناديها ومالي لا أنادي
بلادي (تونس الخضرا) بلادي

وما الأشعار إن جاشت بصدري
سوى قضب مسددةٍ حدادِ

أذود بها عن الوطن المفدّى
وأحمى تونس الخضرا بلادي

وقال في قصيدة أخرى:
وإن خان السّوى الخضرا فإني
بوزن الأرض مالا لم أخنها

وعبدالرزاق كرباكة في قصيدة بعنوان قيثارتي يقول:
أقسمت بعدك لن أحب وها أنا
حتى النهاية حافظ ليميني
هل تعتقدون أن قيثارته تصدقه؟

وأعجبني بيت لأحمد اللغماني من قصيدة يرثي به أحد أصدقائه يقول فيه:
حثثت سيري لكن عاقني قدم
واهٍ ترامى المدى عنه فما وصلا

فذكّرني بالأبيات التي تقول ولو من بعيد:
أسير خلف ركاب النجب ذا عرج
مؤملا كشف ما لا قيت من عوجِ

فإن لحقت بهم من بعد ما سبقوا
فكم لرب الورى في ذاك من فرجِ

و إن بقيت بظهر الأرض منقطعا
فما على عرج في ذاك من حرجِ

واللغماني له قصيدة بديعة بعنوان كفي الملام وقال ناثرا في بدايتها: يطول غيابي عن قريتي فيخيل إلي أنها تلومني أعنف اللوم على هذا الغياب:

كفي الملام ولا تزيدي ما بي
هلّا كفاكِ تشوقي وعذابي

وانسي عتابك وارفقي به إنني
حمّلت ما حملت من أوصابي

لا تعتبي إن فرّقت ما بيننا
نوب الزمان وطال عنكِ غيابي

فلقد حملت هواك بين جوانبي
وجعلت ربعك في النوى محرابي

وجعلت زادي منك ذكرى حلوة
عبأت منها مزودي وجرابي

أحيا بها في البعد فهي لفرحتي
وسعادتي سببٌ من الأسبابِ

أرأيتِ أني ما سلوتك لحظة
أبدا، وهل أسلو ربوع شبابي؟

فانسي عتابك لحظة، وترفقي
فلقد أتيتك أستحث ركابي

أقبلت يا “زارات” ظمآنا إلى
عينٍ تسحّ وجدول منسابِ

حتى يقول:
تلك العهود فهل لديك حديثها
هل من رجوع للصبا وإيابِ؟

زارات إني قد أتيتك ذاكرا
عهد الصبا ردي إلي شبابي

ذاك الشباب بما عليه وماله
بحصاده المحمود والمرتابِ

والله يجزي السيئات بعفوه
ويعد للإحسان ألف ثواب

لي مأمل أني سألقى عنده
يوم القيامة أفضل الترحاب

ولسوف آتيه بوجه ناعم
ولسوف أوتى باليمين كتابي

أقبلت يا زارات ألثم تربة
متمسحا بالساح والأعتابِ

والقصيدة أطول من ذلك وهي من عيون شعره الذي قرأت.

ثم تأتي زبيدة بشير بشعرها المختلف الجميل لتقول غزلا رائعا:
عد يا حبيبي..عد
ففي أعماق ذاتي
ألف دعوة
والذكريات تحيط بي في كل خطوة
واليأس
اليأس المدمر يحتويني
واللهفة الحرا
على -رغم التعاسة- تعتريني
فإذا كياني كله
يهتز في شوق ونشوه
وأنا بدونك أنتهي
وأضيع في أعماق هوّه..

وتقول من أخرى:
خذ يدي فالنار في مجرى دماها
والحنين اللاهف الظمآن لم يرحم أساها
كيف تنساها؟ وتنسى ذكرياتي؟
ما الذي أبقيت لي بعد الفراق؟
كل شيء بعد هجرانك مر لا يطاق..

ليأتي جعفر ماجد ويقول من قصيدة جميلة:
بلادي فوق رابية تطلُّ
يرفرف فوقها نور وظلُ

عيون القوم ساهرة نشاوى
يكحّل هدبها القمر المطلُ

على نتف الحصير لهم حديث
كلغو الطفل حلو لا يملُ
وهذا معنى بديع

يدور الشاي بينهم لذيذا
فينسون الحياة وما تقلُ

ويقول من قصيدة بعنوان الصباح القريب وكأنه يتحدث بلسان المبدعين في كل زمان ومكان:
وليس غريبا أن تردّ نبوةٌ
فكل نبي في ذويه غريبُ

ثم أختم مع أحمد القديدي مع قصيدته البديعة بعنوان: محاولة للصراخ في الغابة الكبيرة:
إلى طفل أوربي:
قرأت بأن عبر ملاجئ البنغال
ومحتشدات، كلكوتا،
يجيء الموت للأطفال
كما يأتيك يا طفلي “بابا نوال”
فتنعم بالدمى والدفء والأحضان
ويبقى الجوع عندك لفظة
مجهولة المعنى
يفسرها لك القاموس..

والحقيقة أن الكتاب أبهرني وأعطاني لمحة جيدة جدا حول الشعر والشعراء التونسيين في المدة الزمنية التي اختراها المؤلف، ولقد سعدت بمعرفة الأفذاذ الأكابر وهذا الشعر الجميل المنساب.

الكتاب من القطع الكبير يقع في 348 صفحة من إصدارات الشركة التونسية للتوزيع الصادر عام 1976

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *