24أبريل

لا يمكننا إعادتك

توقعت أني عرفت الخذلان وتجرعت مرارته… خذلان الأصدقاء، الأنثى، وحتى العائلة في بعض الأحيان، فليس هناك من لم يجرب خذلان شخص قريب أو بعيد، خذلان الزمن أو الحياة بالمجمل. ظننت لفترة طويلة أن الخذلان الذي مررت به كان قاسياً جداً، لكن من يرى مصائب الناس تهون عليه مصيبته كما يُقال، وقد هانت علي “خذلانات” كثيرة حين قرأت عبارة الخذلان الحقيقي التي تلقاها رائد الفضاء السوفيتي سيرجي كريكاليف، وقد أصبح بين عشية وضحاها عالقاً في الفضاء الخارجي بعد تفكك الدولة التي أرسلته “الاتحاد السوفيتي”، إذ كانت الرسالة -بتصوري- أشد قسوة من قدرة الإنسان على التحمل، قيل له فيها وهو معلّق في الفضاء الخارجي، محاط بظلمات لا نهائية:  “لا يمكنك العودة إلى الوطن، لأن البلد الذي أرسلك لم يعد موجوداً، وما من أحد يستطيع اتخاذ قرار متابعة برنامج رحلتك الآن، يجب أن تبقى حيث أنت لفترة أطول”

بعد هذه الرسالة مكث كريكاليف يدور في الفضاء أكثر من 200 يوم حتى تمت إعادته إلى الأرض بعد أن تكفلت ألمانيا بتسديد نفقات استبداله برائد فضاء آخر، وقد عاد شاحباً يكاد لا يقوى على السير.

وحينما عاد، عاد إلى بلد غير بلده السابق، كل شيء كان قد تغيّر… الحدود الجغرافية، والاسم، الحاكم، تبعية المحطة الفضائية التي يعمل لصالحها، كل شيء تغيّر.

باعتقادي هذا هو الخذلان الحقيقي، وليس الخذلان الذي أصبح منتشرا بين بعض الشباب والشابات في العلاقات، أو خذلان وكالة أزياء وعدت زبائنها بمجموعة جديدة ولم تلتزم بالوعد، أو خذلان يوتيوبر لمتابعيه بتغيير موعد إطلالته الميمونة عليهم في بث ما.

يبدو أن الرفاهية التي ننعم بها أصبحت تأخذنا بعيدا عن معاني الحياة الحقيقية ومشاقها، وقسوتها التي تطال آخرين في أماكن مختلفة من العالم.

لا أريد أن أكون مجحفاً في حق مشاعر الآخرين، ولا أريد أن أقلل من قيمتها أبداً، نعم قد يسمى خذلاناً ذلك الذي يوجد في العلاقات الإنسانية بكل صورها، وقد يؤذينا أيضا لبعض الوقت؛ لكن هل يقارن بالرسالة التي وصلت إلى سيرجي كريكاليف، وهل يجب أن نستسلم له ونتركه يسيطر على حياتنا وعلى ثقتنا بها وبالبشر جميعا؟

قد يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى أن كريكاليف لن يخوض تجربة السفر إلى الفضاء الخارجي مرة أخرى بعد ما حدث معه، لكن المفاجأة أنه لم يستسلم لتداعيات تلك الرحلة المريرة، ولا لآثرها الفيزيولوجية، والسيكولوجية التي أترك تقديرها لخيالكم. نعم لقد أقلع من جديد، وذهب في أربع رحلات أخرى خارج غلافنا الجوي المليء “بالخذلانات” الصغيرة، لأن حلمه كان أكبر من كل التداعيات التي شهدها الكوكب أثناء غيابه عنه، وأراد -بكل ما للإرادة من معنى- أن يواصل تحقيق ذلك الحلم. وهنا أتذكر وصية نصر حامد أبو زيد التي كتبت على قبره:

“هنا يرقد أحد الحالمين بمستقبل أفضل. أيها الزائر قبري لا تكف عن مواصلة الحلم.”

لا يجب أن يمنعنا خذلان أحدهم من مواصلة أحلامنا فالحياة ليست متوقفة على أحد … إنها فقط تتوقف عندما نستسلم ونكف عن الحلم.

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *