21فبراير

أنا غبت عني

ديوان أنا غبت عني لأسيل سقلاوي.

أسيل سقلاوي شاعرة لبنانية.

أسيل سقلاوي

منذ فترة ليست بالقريبة وأنا أتوق إلى شعر حقيقي، شعر يتجاوز الصور المكررة، والمعاني الملقاة على قارعة الطريق..

ووجدت بغيتي حينما قرأت ديوان الشاعرة الجنوبية أسيل سقلاوي..

تبدأ الشاعرية في الديوان من الإهداء:

(إلى أمي
التي سرقتُ سمرتها لأشبهها في قصيدة
ما..
إلى أبي وهو يطير بي من مكان إلى مكان..بحثا
عن الشعر

إلى كل من يجدني في قلبه
أهدي هذا الغياب..)
شاعرة حتى في الإهداء، تُهدي الغياب للجميع، وهل الغيابات تُهدى؟ آه ما أرق الشعر..

إنها تؤكد أن الفوز ليس انتصارا في كل الأحوال -سيما- للشعراء:

الشعر فوز المستحيل وربما
قد يخسر الشعراء إن هم فازوا

إنها شاعرة، وقبل أن تكون شاعرة، فهي أنثى، والأنثى لا تضل عن عشقها:

(ببطن الحوت زاغ الصبر عني
ولكن لستُ عن عشقيّ أضلُ)

اتكائها على القرآن، واستنباط الصور البلاغية منه دليل ثقافة دينية عالية، وتوظيف قصة سيدنا يونس بطريقة رومانسية مبهرة:

لك الأنفاس..تبحر دون عقلٍ
لحوتك صار قلبي يونسيّا

وهي تستدعي التفاح في قصيدتها، وشجرة التفاح ترمز إلى الخصب والحب فتقول:

(ما قلت للتفاح -هيت- تلهفا
بل بعثرت في خاطري الأهواء)

وهي لا تنفك تذكر المعاني الدينية، فتقول:

مرآته الروح..لا رؤيا تؤوله
يبدي ويُظهر آثار الطواسينِ

والطواسين هي ثلاث سُورٍ متتالية من القرآن الكريم سُميت بهذه التسمية لابتدائها بحرفي الطاء والسين، وهذه السور هي: سورة الشعراء والنمل والقصص.

وقالت في الزيف الذي يكون في تكوين الإنسان الماء والطين:

وجهٌ يراك ووجهٌ أنت تظهرهُ
تداخل الزيف بين الماء والطينِ

غلاف الديوان

ويذكرني هذا الزيف ولو من بعيد بقول عمران الطولقي:
ونافى تراب الأرض نور بهائه
فلو كان من ترب لعاد إلى الأصلِ

ولها بيت بديع تقول فيه:

وأنت إذا أتاك الليل تهفو
إلى خمري لتشربني وأسكرْ

وقد ذكّرني بيتها بما قال الباخرزي في دمية القصر عن ابن كيغلغ:

(لسكر الهوى أروى لعظمي ومفصلي
إذا سكر النّدمان من مسكر الخمر

وأحسن من رجع المثاني وصوتها
تراجع صوت الثّغر يقرع بالثّغر

قلت: ما أحسن ما كنّى عن حكاية صوت القبلة بقرع الثّغر بالثغر.

ولي في بعض غزلياتي ما أحسبني لم أسبق إليه:

واللثم أنشأ بالتقاء شفاهنا … صوتا كما دحرجت في الماء الحصى).

وتقول وأظنه في العناق:

لم تبتعد ما زال عطرك في يدي
كم بُللت ذكراه بالشوق الندي

لأنهم يقولون: العناق أن تأتي بعطر، وتذهب بعطرين.

وتقول في موضع آخر:
منك القليل إذا التقى بكثيرهم
صار الكثير مع القليل قليلا

وكأنها تستلهم قول المكيالي:

قليلٌ منك يكفيني ولكن
قليلك لا يقال له قليلُ

وتقول في إخلاف الوعد:

وعدٌ عليه بأن لا ليس يتركها
فواعدته ولم يصدق بم وعدا

وما أكثر إخلاف الوعد بين العاشقين، لاسيما من الرجل تحديدا.

ولها عاشق غريب الأطوار، فهو يطلب منها أن تتكلم في الهوى فتقول:

أودعتُ فيك اليوم سر تبسمي
مذ قلت: في حضن الغرام: تكلمي

وكأنه لا يعلم أن قصائدها: (تمشي على استحياء).

من البارحة وأنا أتأمل هذا البيت ولم يظهر لي معناه، وهي من المرات القليلة التي ينتصر عليّ فيها الشعر:

ثقل المكان بما احتواه من الهوى
فاجهد لعلك قد تكون مكاني

ثم تقول في حزن الجهات بيتا بديعا وتدلّ على القلب بلفتة رائعة:

ومواجعٌ كل الجهات مواجعٌ
فالحزن شرقٌ والحزين يسارُ

إن لها صورا شعرية تفيض حنانا وتحنانا فتقول مثلا:

لوّحت “منديل الغياب” فإن أمت
جسدي معي وهناك..كل حياتي

انظر إلى جمال كلمة “منديل الغياب”.

وما زالت تبدع في الإتكاء على الموروث الديني فتقول:

ما غيّبوك! هم الذين تغيّبوا
أخفوك موسى فارتفعت كعيسى

وذكرها للرموز الدينية كثير جدا كعصاة موسى وفرعون وسيدنا يوسف ويونس، والحسين وزيب -رضي الله عنهما- والنجف وكربلاء وفلسطين.

والديوان يفيض منه الحب، وثيمة العشق عليه ظاهره، وأسيل تسيل بين السطور، وتكاد تحييك من بين السجوف..

لقد شبعتُ شعرا بعد هذا الديوان الرائع..

الديوان من القطع المتوسط يقع في 128 صفحة، من إصدارات دار الحركة الثقافية الصادر عام 2016م.

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *