25مايو

كلب صدقي إسماعيل..ضحك كالبكاء

كلب صدقي إسماعيل..ضحك كالبكاء..

الكتاب من إعداد عواطف الحفار إسماعيل، وهي زوجة صدقي إسماعيل، وبهذا تنظم الأستاذة الإعلامية عواطف للقائمة الطويلة من الزوجات الوفيات وما أكثرهن..

لم أكن قبل اقتناء هذا الكتاب بعلم عن (كلب) صدقي إسماعيل، فلقد شدني العنوان كثيرا، واقتنيته مع جملة من إصدارات وزارة الثقافة السورية، وللأمانة فإصدارات الوزارة -في الجملة- غاية في الإتقان والإبداع والإمتاع..

جريدة الكلب هي أول جريدة شعرية ساخرة في العالم من الجلدة للجلدة، شعر موزون ومقفى على بحور الخليل، تُكتب بخط اليد، نسخة واحدة وتوزع على أصدقاء الشاعر، ثم يتم تداولها مناولة باليد.

لم يكن لصدور “الكلب” أي موعد محدد، يبدأ صدقي العدد عندما يخطر على باله أن يتناول الأحداث، والأوضاع العامة بسخريته الفريدة، وتعليقاته المعروفة، ترفده في كل ذلك ثقافة عميقة واسعة في شتى أنواع المعرفة.

كان شعار الجريدة:

جريدة نكتبها بالشعرِ
تصدر في الأسبوع أو الشهرِ

تُعالج الأمور باتزانِ
وتخدم الجميع بالمجان

وكان يوزعها مجانا، ولا يأخذ عليها قرشا واحدا..

ومنهج الجريدة فقد حدده بين الجد والهزل بقوله:
جريدة شعرية الأغراضِ
وليس فيها أي سطر فاضِ

شعارها متانة القوافي
وحفظكم من وصمة الإسفافِ

ومن المضحك أن صديق صدقي إسماعيل الشاعر سليمان العيسى أصدر في حلب في فترة من الفترات جريدة اسمها (ابن الكلب) وكان شعارها:

خدمة للقارئ العربي
صدر (ابن الكلب) في حلبِ

ستراه في سياسته
كأبيه عالي الأدبِ

وكان الشاعر سليمان العيسى من الكتّاب الدائمين الحاضرين في (الكلب).

صورة لنسخة من جريدة الكلب بخط صدقي إسماعيل

الحقيقة أن صدقي إسماعيل طوّع الشعر بطريقة مذهلة جدا في أبواب الجريدة فتراه يتحدث عن الطقس وأخبار البلدان، وعن أحدث أفلام السينما، وإلى غيرها من الأبواب، كل ذلك بالشعر الموزون، وبخفة عالية، تدل على علوّ كعبه في الأدب..

فيقول في أخبار الطقس مثلا:
سلام على الطقس إذ يمطرُ…بنيسان والورد إذ يزهرُ
على عائدات السنونو تقول…بأن الربيع أتى…فابشروا
على شجر البيلسان الصغير…بباب حديقتنا يكبرُ
على كل آنسة الطريق…تطول وأثوابها تقصرُ
على ذكريات طواها الزمان…على بالنا أصبحت تخطرُ

وقال قصيدة طويلة بعد الحادث الذي أودى بحياة ثلاثة من رواد الفضاء السوفييتي والذي صادف أن -صدقي- كان في موسكو:
ذهب الموت برواد الفضاء
فليطب نفسا أمير الشعراء

كان ضد العلم رجعيا وإن
عدّه النقاد موهوب الأداء

حتى يقول:
جو موسكو كان صحوا عندما
كنت في التشييع في شبه بكاء

ما يفيد الدمع والموكب في
طوله يمتد من دون انتهاء؟
بالملايين ترى الشعب وقد
صف عفويا بلا أي استياء

وبرغم الحزن شاهدت على
كل وجه صحة فيها امتلاء

وهذا دليل قاطع أن “القوالب” ليست مشكلة، وليست معيقة في الأدب كما يقولون النقاد، المشكلة الحقيقة في المبدعين الذين يعرفون كيف يتعاملون مع هذا القالب، ولا أدل على ذلك من الشاعر الكبير/ جاسم الصحيّح الذي طوّع القالب، وأعاد وهج القصيدة العمودية مرة أخرى..

في الوقت الذي قال في النقاد أن القصيدة العمودية ماتت، جاء ابن الإحساء ليدافع عن المسكينة المظلومة، فأقام عمودها، وتفنن فيها أيما تفنن، ليعلنها صريحة أمام الملأ، أن المشكلة في الشعراء وليست في القصيدة، ولقد قلت ذلك للصديقة الناقدة المبدعة الدكتورة/ منى المالكي وأقرتني على ذلك.

صدقي إسماعيل ظاهرة فريدة من نوعها فيقول مثلا في قصيدته في المقال الافتتاحي:

لم يكن ظننا بأنّ لدينا
عددا وافرا من القراءِ

فالبريد اليوميّ يحمل (للكلب)
خليطاً من أعجبِ الأسماءِ

بعضهم ينظم القصائد مدحا
مع أن اختصاصه في الرثاءِ

يا أخانا العزيز إنك حرٌ
حيث تُبدي ما شئتَ من آراءِ

إنما الشرط أن تكون بحقٍ
شاعراً خاليا من الأخطاءِ

وسواه في الفخر أرسل شعراً
مع أنّا نريدهُ للعواءِ

يا رفيق الكفاح ضاعت علينا
نزوات الغرور والكبرياءِ

وزميلٌ سواه يعبث بالوز
ن أهذا من شيمة الشعراءِ؟

يدّعي أنه رقيق الأحاسيـ
ـس رهيف الأحلام واهي النداءِ

أسرة “الكلب” تأخذ الكل بالحضـ
ـنِ وفاءً، والكلب رمز الوفاءِ

مع أن الكلب المهذب يمشي
وحده دائما بدون جراءِ

وقال من قصيدة أخرى:
وجود مليء بالمعاناة عاصفٌ
إذ قر فيه لولب دار لولبُ

يرى في حياة الحس آفاق عالم
بعيد الرؤى فهو البصير المجربُ

بمقدار هم المرء يُعرف قدره
ومستغرق في راحة العقل أجدبُ

وشتان بين الخالق النبع قلبه
وبين الذي يأتيه ماء فيشربُ

ويقول من أخرى:
إن اخطأت قدمي الطريق فشُدّني
بيديك شدّا كي نسير سواءَ

إن البطولة أن نفجّر جدولا
ليس البطولة أن نموت ظِماءَ

والحاء لبّت للحمار نداءه
حتى يضيف لها أخوك الباءَ

ويقول من قصيدة على ضفة العاصي:
على ضفة العاصي أزاهير غضة…تميل، وقد أحيا النسيم ظلالها
وغاب من الصفاف تزهو فروعه…لتلقي على صفو المياه اختيالها
وقفتُ كأني في جنانٍ وريفةٍ…حلمت بها يوما وأخشى زوالها
وأحلم بالسمراء وهي بعيدةٌ…فألقى جمال الروض قفرا حيالها
تحدثني الأزهار عن حسن وجهها…ويحمل لي ضوء النهار خيالها
كتمت هواها في الضمير معربدا…مخافة أن يؤذي الجموح دلالها
بدا لي سكون النفس منها وصمتها…وأحيت بنفسي وجدَها وانفعالها
لها الله والأحلام بيني وبينها…أعن همسات الشعر صانت جمالها؟

ولقد أصدر صدقي إسماعيل جرائد عدة قبل “الكلب” أو أنها هي ولكن غيّر الاسم، فكانت له “المنشار” و “الجسر”..

والحقيقة أن هذه الجريدة من أطرف وأعجب ما قرأت وهي بديعة جدا وداخلها شعر ساخر لاذع حار جدا..

الكتاب من القطع الكبير من إصدارات وزارة الثقافة السورية، يقع في 251 صفحة، الصادر عام 2017م.

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *