ديوان حتى مطلع الشعر لسارة بشار الزين.
سارة بشار الزين شاعرة وروائية لبنانية.
مع أن لها ثلاث روايات ولكنها قدّمت صفة الشاعرة على صفة الروائية وربما لأن الكتاب (ديوان) فلذلك كان هذا التقديم، والديوان يطفح بشاعريتها وافتخارها بذلك:
معي الآن مفتاح المدائن كلها
معي صوت شعري حين جاء مكبّرا
من العنوان يتضح العمق الديني للشاعرة وتأثرها بالنص القرآني، وهذا الاقتباس الصريح للآية الكريمة (حتى مطلع الفجر)، والديوان مليء بهذه الاقتباسات كقولها:
فلتكشفي الساق إن الصرح لجتّه
هذي المقامات معراجا وملتحدا
كأنه هو أدري وقع سطوته
تلك الإشارات تخفي في الشرور يدا
وقولها:
كقلب يونس من بطن الظلام يرى
في مدمع البحر ما أبقى له نوحُ
وقولها:
حتى رميتَ على أعقابهم وطنا
من المجاز وشعرا كان مشهودا
وقولها:
هي البداية (موسى) صام في سفرٍ
مع الغلام وحوت الرغبة ابتلعك
لن أستطيع هنا صبرا أنا امرأة
وكيف أصبر إن ناديت أن أدعك؟!
وهي شاعرة ريفية ترتكز على واقعها البسيط في أدواتها الشعرية فتراها تذكر الخبز والزعتر والماء البارد والغيم والغمازتين وغيرها من الأمور الحياتية الرائعة..
تقول:
للناس رقص بدائي يقبلّهم
وللدراويش رقص ينتهي مددا
وكأنها بهذا الرقص تستدعي قول جاسم الصحيح:
إن زاركِ اليأس إن أزرى بكِ الندمُ
لا تشتكي فلديكِ الخصر والقدمُ
قومي فما هي إلا رقصةٌ وإذا
جيش الهموم على ساقيكِ منحطمُ
ما عذر أنثى أصاب الحزن بهجتها
إن لم تكن بمزاج الرقص تنتقمُ
وتقول: (وكنت إذا ما اعترتني قصيدة) إذن القصيدة حالة شعورية خارجة عن إرادتها وبذلك تشير من طرفٍ خفي على أن الفكرة تفرض نفسها على الشاعرة لا العكس، وهذا ما أكدته بصريح العبارة في موضع آخر بقولها: (تصرخ فكرتي الشمطاء في رأسي طويلا)، الفكرة تصرخ بقوة تريد أن تظهر عنوة.
لغتها الشعرية لغة مائية؛ لأنها تبلل الفكرة العذراء وتغسلها ولديها قِربها، وتطلب من الفكرة أن تكون ندى، والغيم ينزل على كتفها..إلخ، لغة ممزوجة بماء الغمام السماوي..
تقول عن الجنوب:
فكل مكان دون وجهك غربةُ
وكل رئات العاشقين جنوب
وبذلك تنضم إلى الشعراء الذين صرّحوا بحبهم للجنوب كالمجنون في قوله:
هوى صاحبي ريح الشمال إذا جرت
وأهوى لنفسي أن تهبّ جنوبُ
وقال بعضهم في محبوبته:
فيا خير أسماء الرياح تركتني
لدى السفر لا يُدعى إليّ طبيبُ
وكان اسمها (جنوب).
ولها عنوان قصيدة بعنوان: (الحب دنسه العرب)، وهل تركوا لنا شيئا لم يدنسوه؟ إن الحب يأتي ضمن القائمة الطويلة من الأشياء المدنسة لدى العرب.
وتقول في تسبيح النارنج:
كالأغنيات السكارى حين تسرقنا
من ثقبٍ ناي كأن الناي مبحوحُ
وقد قلت في ديواني القادم (أعرف وجه اليأس جيدا):
(حينما تكتظ القاعة بالجميع سأتلف حنجرتي، وأرمي بصوتي للكلاب الضالة لتأكل منه ما تبقى من صوتٍ مبحوح)..
وأما في قصيدتها أرملة الخليل فكأني بها تعتذر للخليل عن الخروج عن تعاليمه وتقاليده وقوالبه الوهاجة، بحجة شعر التفعيلة وشعر النثر..
جاءت القصيدة محمّلة بالرموز والاستعارات؛ ولكن ما شدني فيها العنوان، فهو أبلغ من كل شيء..
وتقول في الشعر الحديث:
وأبحث عنك في سكرات شعري
ويشقى الناس في الشعر الحديثِ!!
والحقيقة أنني متعجب جدا من أحد مخاوفها فتقول:
ويخيفني الشعراء جدا كلما
غرسوا النفاق مع القصائد غرسا
وهل كانت القصيدة في الغالب إلا معجونة بالنفاق، وتطبخ في فرن التورية!!
التورية: الكذب المقنع.
أليست القصيدة أنثى؟ ورصاصة كذلك؟ تفجر في الحر ألف سلاح!!
تقول في قصيدة بديعة جدا:
كثرت تفاصيل التنهد
لا مكان لنهدة أخرى بخيط بناني!
ما هذا الخيط الذي يُشدّ في البنان؟ هذا الخيط تعرفه العرب ويسمونه (الرتيمة) وهو خيط يُربط في الإصبع ليُستذكر به الحاجة، قال الشاعر:
إذا لم تكن حاجاتنا في نفوسكم
فليس بمغن عنك شد الرتائمِ
وتقول في موضعٍ آخر:
كثيري فيك أكثره جنونٌ
وأكثر ما يعذبني أقلّي
وكأنها تستلهم قول المكيالي مع قلب المعنى:
قليلٌ منك يكفيني ولكن
قليلك لا يقال له قليلُ
وفي ذروة الإبداع تقول في قصيدة كذبتي الأولى:
سأموت في متن القصيدة لا الحواشي شاعرا..
ما زال يقضم حرفه وغدا سينكره الكتاب
وآخر من عرفته يقضم الحروف محمد الماغوط ويضاف إليه الآن ابنة الشمس والأرض سارة بشار الزين.
إنها تحتاج أن تخفي عن المرآة بعثرتها:
أحتاج أخفي عن المرآة بعثرتي
عليّ ألملم في أجزائها قطعك
لأنها تعلم أن المرآة تعكس الواقع وتظهر الحقيقة..
الخلفية الدينية تذوب عند الحبيب وتتحول الأفكار والمعتقدات فيصبح هو كل شيء:
ديني رضاك، ووجه صُبحك قِبلتي
والليل في أسرار همسك مذهبُ
هناك مفردات تتردد بكثرة في ثنايا الديوان (الرئة، الخوف، الشك، رعشة، الجسد، الشوق، المجاز) وهذا يثبت أن الشاعرة تدور بوعيها وبدونه كذلك حول هذه المعاني..
قال بعضهم: أنها استعجلت في نشر الديوان، وقال هذه الكلمة وهو بلا شك لم يقرأ هذا الإبداع الذي يفيض من جنبات الديوان، ومتى سيكون الوقت المناسب للنشر؟ بعد سنة، أو سنتين، أو ثلاثة؟ كلا، إنه الآن الوقت المناسب..
هذا الديوان هدية 2021م، إنه بلسم وعوض السنة الفائتة..
الديوان من القطع المتوسط يقع في 174 صفحة، من إصدارات دار مدارك، الصادر عام 2020م.