الماء البارد نعمةٌ مغموطٌ حقها في زحام النعم.
أنا ومثلي كثير مررنا على هذه النعمة مرور الكرام ولم نقدّرها حق قدرها، كيف لا، والعرب كانت تضرب بها الأمثال فتقول: أحسن موقعا من الماء البارد من العطاش المسهوم.
حتى أن عليا -رضي الله عنه- حينما سُئل عن محبته للرسول قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا ومن الماء البارد على الظمأ.
ويروى في الأخبار أنه كان من دعاء داود-عليه السلام-: «اللهم إني أسألك حبّك وحبّ من يحبك، والعمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي ومن أهلي ومن الماء البارد».
بل إن بعضهم غالى حتى أصبح الماء البارد عنده أرفع منزلة من الفالوذج، وكان أحدهم إذا أراد أن يعاقب نفسه قال: لا أشرب الماء البارد أبد الدهر، يعني أنه بالغ في العقوبة، وأبو سليمان داود بن نصير الطائي صاحب أبي حنيفة كان يقول: إذا كنت تشرب الماء البارد المروق، وتأكل اللذيذ الطيب، وتمشي في الظل الظليل، فمتى تحب الموت والقدوم على الله؟ يعني يرى أن هذه الثلاث من العيش الرغيد، وقد صدق فإن الماء البارد أحب إلى الإنسان عند عطشه وحرارته من كل شيء.
ولعظم الماء البارد عند عروة بن حزام فإنه يحلف برب الراكعين أن عفراء أحب إليه منه فيقول:
حلفتُ برب الراكعين لربهم
خشوعا وفوق الراكعين رقيبُ
لئن كان برد الماء عطشان صادياً
إليَّ حبيباً، إنها لحبيبُ
أتمنى ألا نعتاد هذه النعمة فتُنسى وكأنها ليست نعمة كما صنيعنا في النعم الأخرى.
نعمةٌ مغموطٌ حقها في زحام النعم.