كنت اقرأ رسالة أرسلها الأب أنستاس ماري الكرملي والذي كان وقتها مقيما في العراق إلى الأدبية مي زيادة عام 1921 وقد أعجبتني الرسالة في فصاحتها وسلاسة أسلوبها وبلاغة ألفاظها، وأنا مختار لكم بعض مقاطعها لتشاركوني لذة قرائتها:
(وأقر لك بكل صدق وإخلاص أن ليس من يستطيع أن يجاريك في الحلبة التي اختططها لنفسك فكنتِ فيها المجلية، وكل من جاء قبلكِ أو بعدكِ لا يكون إلا سكِّيتا، بل يرجع بما رجع به حُنين). والسكيت آخر متسابق في حلبة الخيل.
وقال في موضع آخر:
فاضططرت إلى أن أطاوعهم، فما كانوا إلا طيورا نبتت لهم أجنحة مما سمعوا، فحلّقوا بها في سماء الخيال قاطعين الفدافد والأودية ليسرّوا إليكِ بأنكِ وحدكِ -ووحدكِ فقط- معبودة المثال والخيال، وإذا ذكر بعدك غيرك، رجلا كان أو امرأة، فقد ظلموكِ وبخسوك حقكِ.
وقال في موضع آخر:
وقد بعثت بها إليك فإذا وقفت عليها عرفت منزلته في الأدب، وكيف يقدرك وكيف يطيب له أن يضعك بين معبودات العرب.
وأختم بهذا الموضع الأخير:
وكان السامعون لألفاظك يصفقون طربا لكل كلمة تنتثر من نظمكِ، كما كانوا يفحصون الأرض بأرجلهم ابتهاجا، فأيم الله لقد أطعمتِ فأشهيتِ، وأشربتِ فأرويتِ، وأسكرتِ فأطربتِ….) إلى آخر ما قال.
وإني حين اقرأ مثل هذه الرسالة أتفكر في حال الكتابة الإبداعية في هذا الزمن ومن يعرّف نفسه بأنه “كاتب إبداعي” وهو مجتهد في تعلم الذكاء الاصطناعي وأحدث الأدوات الذكية ولا يجتهد في نفس الوقت في تطوير ملكته الإبداعية وتغذية ربة إلهامه بشكل يصيّره إلى أن أكون كاتبا إبداعيا حقيقيا.
من المحزن أن يتحول الكاتب إلى كاتب مكرر أو كاتب يجتر فضلات الذكاء الاصطناعي ولذلك نرى الطلب هائل على صناع المحتوى وكتاب المحتوى الحقيقيين.
كيف نفسر الإعلانات الوظيفية التي تطلب كتّاب محتوى والتي نراها بشكل شبه يومي؟
لو كان الذكاء الاصطناعي كافيا لما رأينا شركة مثل duolingo تضع راتبا لمدير إدارة المحتوى عندهم بـ 300 ألف دولار سنويا.
هل بتنا نظن أن كتابة المحتوى شيء سهل وأننا قادرين على الاستغناء عن العقل البشري بالذكاء الاصطناعي؟
يجب على كل أحد ينتمي إلى هذا الحقل أن يعيد النظر في نفسه ويطوّر من ذاته الكتابية حتى لا يرى نفسه وهو خارج المشهد تماما.