ما الذي يجعل الفكرة الثقافية تنهض في مكان وتغيب في آخر؟ هل يكفي أن نغير المكان أم أننا بحاجة لتغيير العلاقة بين الإنسان والفكرة؟
في مهرجان “الأفكار” في مدريد تقدم الفلسفة كنقاش شعبي يعرض في الساحة بجانب المارة أو داخل متحف أو على درج مسرح.
تقال الأفكار بصوت مرتفع كما لو أنها تحتاج للهواء أكثر من حاجتها لقاعة مغلقة.
130 مفكرا من مختلف الجهات الجغرافية يلتقون لنقاش أفكار وجودية في فضاء عام مع الناس.
هذا التوجه يعيد للفلسفة شيئا من وظيفتها الأولى: التفكير في العالم من داخل العالم لا من فوقه.
الخطاب موجه إلى الناس وإلى المارة في الشارع؛ فالمتحدثين منفتحين إلى حوار مفتوح وعميق مع الناس وليس إلى جمهور نخبوي أو محدد.
من ناحية أخرى تأتي مبادرة “الشريك الأدبي” عندنا في السعودية إلى استضافة الثقافة والأدب في المقاهي من أجل زرع بذور الثقافة في المساحات اليومية ولتجد الكلمة مكانا بجانب فنجان القهوة وإبريق الشاي.
ما يثير الاهتمام هو أن المشروعين يتفقان في نقطة غير ظاهرة للوهلة الأولى: كلاهما يذهب للجمهور ولا ينتظره يأتي.
مهرجان مدريد ينزل إلى ساحة عامة في وسط مدريد ويقيم فعالياته هناك وكذلك الشريك الأدبي يقيم فعالياته في المقاهي والتي يرتادها الناس بكثافة.
هذا الانتقال من “الدعوة إلى الثقافة” إلى “جعل الثقافة موجودة” هو ما يصنع الفارق.
حين تكون الكلمة متاحة والمفكر غير معزول والمكان غير مخصص تتغير طبيعة العلاقة بين الإنسان والمعرفة.
التقاطع الحقيقي بين المشروعين هو في فهم الثقافة ككائن حي كجزء من الحياة اليومية مثل الرغيف والمقعد والشارع.
قد لا تكون الطريق واحدة لكن الوجهة تبدو مشتركة: أن يعود الإنسان ليتكلم عن العالم بجانب الناس ومن خلالهم لتصبح المعرفة صوتا مسموعا في الساحة وفي المقاهي.
أن تصبح الفكرة شيئا يمكن أن يصادفه المرء صدفة دون أن يبحث عنها وحقيقة أن هذا المفهوم ملهم بحيث أن الفكرة تنزل من برجها العاجي وتمشي بين البشر تسمع لهم وتتشكل على مهل داخل يومياتهم.
ولعل ما يجعل هذه المشاريع مثيرة للاهتمام هو أنها لا تطلب من الناس أن “يحبوا الثقافة” لكنها تفترض أنها موجودة فيهم أصلا، فقط علينا أن نعيد للقراءة والتفكير مكانا في المشهد اليومي.
حين تتوقف الثقافة عن أن تكون فعلا مناسباتيا وتصبح فعلا عاديا يوميا فإننا نبدأ بتشكيل جيل واعي مثقف منفتح على الحوار في كل مكان لأن الفكرة تعود إلى أصلها: همسا إنسانيا بسيطا في قلب الزحام لا في القاعات المغلقة.
*نشر في صحيفة الجزيرة:
https://www.al-jazirah.com/2025/20250725/ca5.htm#google_vignette
