22أغسطس

الحديث مع النباتات “كتاب الأصحاب”

عرفت الأستاذ الشاعر الصحافي الكبير/ هاني نديم منذ زمن طويل وقد أكرمني كثيرا بإهدائي كتبه ومنها: فهرست ابن النديم لوغاريتم الوجوه متتالية الخطى وخيمة الرب رثاء الآباء نصوص من العالم وأخيرا كان الحديث مع النباتات “كتاب الأصحاب” وهو عبارة عن ديوان شعر عن أصدقاء هاني وأزعم أننا كلنا كذلك.

الدهشة تكون معك منذ الوهلة الأولى ومن “التصدير” حيث كتب:
هذا الكتاب يتعلق باللحظة الشعرية فقط، لا بمن هم أقرب، إذ أنني أكره معظم من ورد في هذا الكتاب!
وهذا ليس ببدعة في الحب، فكثير من الغلو في الحب يكون أحيانا “كره” وما ألذ الكره المحبب.
إنه ينكش أصدقائه ويلكزهم بحسه الصحافي الفكاهي المشهور.
هل انتهت المناكشات واللكزات؟ لا، يعود فالإهداء ليقول:
الإهداء إلى كل من لم يرد اسمه هنا!

أول صديق يكتب عنه هاني “عبدالباسط عبدالصمد” القارئ المصري المشهور حينما سمعه في بوخارست:
ثلاثون عاما على الطرقات البعيدة الموحشة الباردة التي
تزيدها فوانيسها عتمة، بدت وكأنها البارحة..
ثلاثون عاما يا “عبدو” ومازلتُ أعود للديار من أوّل صوت في صوتك..
من أول الفاتحة..

ما أصعب توديع الأحبة حينما لا يغمزون لك مرة أخرى محمود الغورو:
بعد عشرين عاما من حياة المنافي
التقينا في جنازة..
غمزت لي بعينك من بعيد وانتظرتك على باب المقبرة الشرقي
إلا أنك لم تخرج!
قلتُ يومها:
كعادته، خرج من الباب الآخر للغياب..
ها أنت اليوم تموت
لمن سأغمز في جنازتك؟

والأصدقاء ليسوا كلهم أشخاص، إنما أماكن ودول وشوارع وسيارات وحتى قميص قُدّ من جنب، فلقد كتب عن العراق والمرسيدس وشارع الشانزليزيه وشارع سوهو.

الأستاذ هاني وهو يوقع لي الكتاب.

إنه العربي الفقير الذي وقف في الشارع المتخم بكل شيء إلا الحياة شارع الشانزليزيه في باريس:
كان في جيبي 53 فرنكا بالكاد أصل فيها لآخر يومي
وكان في جيبك كل هذا البذخ
كان في رئتي الشيح والريح
وكنت تقترح “ديور” وريتشي
كنت تختزل الفن الفرنسي بأنفه المدبب
وأنا أضع بين يديك خجل التراب والقرى وصوت النواعير
أنا ابن الصمت
يا أطنانا من ثرثراث المقاهي..

أربعون عاما وهو يجر الدلاء والماء والرجاء، حينما قال عن وليد الأندور:
أربعون عاما وأكثر ونحن على ذات البئر
نجرّ الدلاء والماء والرجاء والأصدقاء
ويتأخر الجميع ولا نتأخر..
سر إلى قلبي كما أنت
سر..
هذا القلب ماء..
وهذا القلب جرّة..

سألتك بالله انظر كيف استخدم اسم ممدوح العقوزي:
بالأمس سألني عنك أحد الأصدقاء القدامى
حرت بم سأجيبه
قلت:
ما أحلى أن تكون ممدوحا..

للأسف هاني يحب مارلين مونرو وكنت أعتقد أني أحبها وحدي:
لدي جلسة تصوير واحدة وبعدها أنتِ حرة..
فقط، أريد أن ألتقط حزنكِ الذي لم يره أحد
إنه أجمل من شامتك وشفتيك وسنابل شعرك
إنه السبب والقضية والنتيجة والنجاة..
كلما فكّرت بكِ أسمع نغمة (أوكورديون) من الشارع الخلفي
أسمع صبية يلعبون في بيوت الضمانات الاجتماعية، وألمح فتاة شقراء
خجولة هناك..

لم يكتفي هاني بالحديث عن الأشخاص والشوارع والحارات والمدن والطرق والسكك بل ذهب إلى الشخصيات الخيالية فكتب عن سانشو بانثا:
سأقول لك ما أقوله لأصدقائي:
إن مشى سيّدك في طريق ومشيتَ في طريق آخر
لتبعتك حتما
وجعلتك سيدي..

يا حظ مي الخطيب فلقد شكّل بيروت على هيئتها:
أيتها المرأة الهائلة والصديقة الهائلة
إن أرادت بيروت أن تصبح فتاة
ستختار أن تكونكِ..

يرق هاني كثيرا حينما يكتب عن سوريا أو عن صديق له سوري وهاني كله رقه ولو نفضته لسال الطريق “بالرقة”:
أيها السوري الكثير
يُروى أن الفرات لم يكن قبل أن تبكي إحدى أمهاتنا حزنا..
وأن الرقة سميت بهذا الاسم لأنها رقّت لبكائها
نسيت أن أروي لك هذا:
إن اليمام حين يعود من تركيا يكون مثقلا بالحزن وهو أيضا
وحين يخرج من ديارنا بعد المواسم
يرقّ أيضا ويشفّ ويصبح أكثر طمأنينة، فيسهل اصطياده
يُروى يا محمود: إن الحياة خدعتنا بزينتها وأضوائها
لكننا لم نهتم
لقد ضحكنا جيدا وأعددنا العدة لكل تلك الأحزان..

إنه مدهش ورقيق حينما ينظر إلى منذر المصري:
رهافتك معدية في هذا الزمن الصلف
أخشى كلما نظرت إليك أن أكسر فيك شيئا..
لهذا أنشغل دوما عنك بالكنبة
واللوحات على الجدار
والجميلات..

هاني مؤمن؛ لأنه يؤمن بحياة ثانية حينما قال عن أميمة خليل:
في الحياة القادمة
سأعرفكِ أبكر قليلا حتى لا أصدأ كل هذا الصدأ..
في الحياة القادمة
سنغنّي كثيرا..

لقد استدعى التاريخ بالمتنبي وأبي فراس الحمداني وبالطبع سيكون ابن الفارض موجودا حينما قال له:
أعنّي لو سمحت على غرامي
وأشواقي وأحزاني ووجدي

إبراهيم داود يحشو الأصدقاء محبة وذكريات وهاني يحشونا بالجمال:
أرأيت المصريين كيف يحشون الحمام؟
هكذا تحشو أصدقاءك محبة وذكريات..

ثم إن لديه التقاطات عجيبة، إنه يتغزل بخشم مفيد البلداوي:
تضحك، فترتجّ كصحن “جيليه” في يد فقير
تضحك، فنصحك لضحكك الوفير..
أنفك أكبر من “اللزوم” وذلك لضرورة المرحلة..
دام قلبك الذي يحمينا من غوائل الحزن الحقير
دام خشمك
نقبّله
ونمضي إلى القصائد آمنين..

شكرا لعارف الساعدي الذي أنقذ حياة هاني:
لو أنك لم تظهر في حياتي لامتلأت حياتي بالمسامير والخشب..

يتفنن هاني في تركيع وإخضاع المعنى حينما يريد، وجد بو عبدالله:
يُحكى في العصور البعيدة أن الأرض كانت بلا بحار
فسمّوها اليابسة
وأنه في العصور البعيدة
لم يكن للسفن معنى ولا نبت تلويح النساء على المرافئ
إلى أن رمت عاشقة منديلها
لحبيب غاب دون وداع
وبكت حتى امتلأت عروق الأرض
فسارت السفن
واتصلت البلاد
وصار للغيم معنى

الناس يعدّون أصابعهم وهاني يعد أحبابه الراحلين ياسر الزيات:
نسيت أن أخبرك هذا يا ياسر:
لم أعد الخراف يوما
كنت أعد الوجوه التي أحبها
أنتهي منها وأعيد
أعد الوجوه وبسماتها
أعد الميتين أيضا
هذا هادي
وهذا باسل
وهناك محمود والبقية
ثم أقول يارب
ضع في يدي سكاكر من أجل حزني
وسجّل لديك:
أريد جنة صغيرة لهم
نهرا وإوزا وشجرا بعصافير..

للفن ولوحاته مكان في الأصدقاء فقال عن راميا حامد:
يوما سيخرج المهرجون من لوحاتك
ستخرج الوجوه والنساء والغزلان والحساسين
ولكنها للأسف لن تجد أحدا..

وكان لابد للأب من وجود في زحمة هذه الوجوه فقال عن أبيه:
أرأيت قلبي؟
حرت تحرس طيره
مر الغراب على الحمام
وغربّه

بحمام وجهك
وهو يلحق بعضه
هب لي -بخالقه-
العيون لأرقبه

وجهٌ تحنّى بالحنين حمامه
وحوى المآذن
وهي تزمع مغربه

مأهولة طرقات كفّك يا أبي
طيرا وقمحا..
والسنابل متعبه

يا ضوء هذي الروح عش بعباءتي
قصبا بليل المفرقين لأطلبه

الإهداء

هذا الكتاب كما قيل في المثل العربي “حشو اللوزينج” يضْرب مثلا للشيء يكون حشوه أَجود من قشره، والحقيقة أن قشره وحشوه وكل ما يتعلق به بديع.

وهاني نديم وافي ولذلك هو يذكر أصحابه ويخلّدهم في كتابه وهذا ليس بغريب على الأوفياء أمثاله فلقد فعل ذلك قبله الشاعر الكبير قاسم حداد في كتابه جوهرة المراصد دفتر الحضور والغياب حينما ذكر أصدقائه وأحبابه من الشعراء الذين عاصرهم وزاملهم.

الكتاب من القطع المتوسط يقع في 144 صفحة من إصدارات الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2023.

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *