كنت لوحدي في أحد المحلات التجارية من أجل التبضع ومروا بجانبي ثلاثة أشخاص لم انتبه لهم، ولكن أنفي فعل ذلك، لقد شدته ريحة عطر لم يشمها منذ زمن بعيد، وبلا تردد وبدون أي وعي التفت إلى هذه المجموعة، وتبعتهم حتى أعرف مصدر هذه الرائحة.
تبعتهم بشكل مجنون ومريب، أعترف بذلك، لقد شعروا أن هناك من يتبعهم ولكن لم يهتموا لذلك لأن المكان كان مكتظ بالمتسوقين ولكنني لم أستح وقربت أكثر وبدأت أشمهم واحدا واحدا وكأنني مجنون؛ بل زد على ذلك كأنه مشهد كلب بوليسي يشم مسرح جريمة!!
شممت الأول والثاني ووجدت بغيتي عند الثاني، وتوقفت عنده وابتسمت وحييته وسألته أسئلة كثيرة لم يستوعبها عقله.
انظر إلى المشهد من بعيد: سوق كبير مكتظ بالمارة، وغريب يشمشم ملابسك ويسألك عشرة أسئلة في وقت واحد!
لم يكن لطيفا بقدر ما هو مندهش من فعل هذا الغريب، لكنه أخبرني أنه سائح أوروبي وأنه يقضي آخر أيام اجازته هنا..
حينما استعدت عقلي أدركت حجم التدخل الصارخ الذي فعلته، لكنني اعتذرت وقلت أن هذه رائحة عطر أبي الذي كان يستخدمه قبل عشرين سنة، كان عطره المفضل، ولم أشم هذه الرائحة منذ تلك الفترة، لقد ابتسم حينما عرف القصة وبدأ يلاطفني ويهدأ من روعي وأن هذا فعل نبيل من قبل..إلخ.
إنه عطر عادي بالنسبة له؛ لكنه بالنسبة لي كومة من الذكريات، ومجلدات من الأحداث والصور والأغنيات..
أبي حي يرزق، وذكرياته كذلك، ولكن المنطقة الجغرافية أبعدتنا عن بعض، هو في الجنوب وأنا هنا..ولكن العطر جمعني به بالأمس في محل تجاري كبير يبعد عنه ألف ومئتين كيلو..
لا يمكن أن انسى اسم العطر (جاكمو) ذلك العطر بالكرتون الأسود المحفوف بألوان فضية على جوانب الكرتون.
بحثت عنه في المواقع الالكترونية ووجدت أنه ما زال متوفرا، طلبته ووصلني.
الشركة التي أوصلت الشحنة كانت توصل طلبية عادية لفرد عادي، لكن الأمر بالنسبة لي كان ألبوم صور على هيئة عطر، درازن من المشاهد واللقطات التي استرجعتها الذاكرة..
هل من البر أن تتعطر بعطر أبيك؟ لا أعلم ولكني الآن أفعل هذا بكل حب..
أشعر الآن برائحته معي، ملاكي الحارس، صديقي المفضل.
قد تموت كل الإشارات والأمارات لكن في النهاية: تبقى الرائحة قصة لا تموت.
لا شك ان هذا من البر ومن التذكير للناس بالبر
شكرا جزيلا لك أستاذ