إنه أمر شاعري أن تكون شاعرا واسمك موسى.
موسى بدأ الديوان بقصيدة فاخرة لمدح الرسول:
من أين آتيك؟ والدنيا بك امتلأت
وكيف أهواك مالي مهجة أخرى!
يُتَّمت طفلا فداك الأمهات فهل
يُتَّمت طفلا لترعى الأمة الكبرى
خذني إليك فعندي ما تضيق به
نفسي وقد أدركت من حبسه الضرا
أنا اليتيم الذي أزرى الزمان به
وأنت أهلٌ لمن لم يستطع صبرا
يا ليتني كنت جذعا يابسا نزلت
عليه كفك يا مختار فاخضّرا
هو لا يستطيع المشي فوق مشاعره؛ لأنه شاعر شفاف رقيق:
لن أستطيع المشي فوق مشاعري
قولي لها: ملعونة أقدامي
حاولت لكني فشلت لأنني
أنوي ووجهك حاضر قدامي
لقد تذكرت ابن الفارض حينما قال:
أودعت قلبي إلى من ليس يحفظه
أبصرت خلفي، وما أبصرت قدامي
إن الهم إذا نزل بالإنسان جعله لا يشعر بما يفعل كأن يقلّم أحلامه بدلا من أظفاره:
وكنت على ما في يديّ من الأذى
أقلّم أحلامي وأنسى أظافري
وبسبب الحرب في بلاده أصبح الموت واحدا من أهل البيت:
نموت لأن الموت من أهل بيتنا
وألطف ملهوفٍ وحادٍ وزائرِ
وأجمل ما في الموت إن كان آتيا
إلى من أتاه، زغردات الحرائرِ
وكأي شاعر فإن قلبه دون أبواب وحرس:
الملمح البدوي يدخل بغتة
قلبي، وقلبي ما له أبوابُ
نظرت رباب فكنتُ أول ما ترى
ولنعم أول ما رأته ربابُ
قالت أأنت الطائر الجوّاب يا
هذا، فقلت الطائر الجوّابُ
السماء لدينا معروفة عدد نجومها إلا لديه فثمة نجم زائد:
إني لأنظر في السماء أعدها
نجما فنجما، ثمّ نجمٌ زائدُ
هو تلك أسماء التي أحببتها
وجميعهن جميعهن حواسدُ
وأريد أن أصدقه بأنه يتقمص دور العاشق:
تقمصت دور العاشقين وليس لي
من العشق إلا ذكريات المساجدِ
فمن دعوة لا أطفأ الله وهجها
أخبّئها في معطفي للشدائدِ
أيمكنني أن أصدّق شاعر؟!
مهما كبر الإنسان فإن المنقذ له دوما الأم:
ثقيل عليّ الهم لكن حملتُه
على ظهر أمي عندما انشلّ ساعدي
إنه عالي الهمة والنفس:
صهوتي الشمس والمدار طريقي
وأنا والعلا على ميعادِ
كان بودي لو حبّها حد الحياة وليس الموت:
أحبك حد الموت، لا حد بعده
وكان بودي أن أحبك أكثرا
إنه طمّاع في الود ولا يرضى إلا بالشفع والوتر:
فثنّي إذا أسقيتني الود واشربي
هنيئا لمن صافى وثنّى وأوترا
مشكلة الإنسان ليس في الهم نفسه؛ ولكنه في الهم المتخيّل:
كبير هو الهم الذي أنزوي به
وأكبر من همي الذي أترقّبُ
كلنا يا موسى لا نضمن شيئا بعد التقبيل:
وقبّليني ولا تستسلمي ليدي
فلستُ أضمن شيئا بعد تقبيلي
لعن الله من يضمن شيئا بعد التقبيل!
وهنا لفتة جميلة وشعر عذب رقاق:
إذا عُدّ أهل الخير كنا ثلاثة
(أنا وحبيبي) و(الندى) والسحائبُ
وإن قيل ما معنى جفاء وقسوة
أشارت إلى صدري العذارى الكواعبُ
فإن قلت يوما إنني عنك راغبٌ
فذلك يعني أنني بكِ راغبُ
لقد كسر الأحباب بالبعد خاطري
لماذا كسرتم خاطري يا حبايبُ؟
على أن حبيب لا تجمع على حبائب؛ ولكن قالها قبله كثير من الشعراء مثل البارودي:
وما زاد ماء النيل إلا لأنني
وقفت به أبكي فراق الحبائبِ
والآخر قال في استصغار الخطر في لقاء الأحبة:
وما الشوق إلا في صدور تعوّدت
لقاء الأعادي في لقاء الحبائبِ
وإن كان قيس بن الملوح يقول:
ولي كبدٌ مقروحة من يبيعني
بها كبدا ليست بذات قروحِ
فإن موسى يخالفه ويريد أن يعطي محبيه قلبه حتى يعلموا كمية الشجن الذي بداخله:
عليكم حمل قلبي بين أضلعكم
كي تعلموا أي شوقٍ فيه يعتملُ
ثم يعرّج على مشكلة شهيرة، وهي انقلاب الأصدقاء إلى أعداء:
كم من رسول حبيبي حين أرسله
إليهم، وعدوي عندما يصلُ
ويستمر في قصيدة أخرى في التشكي من خذلان الأصدقاء:
فدع لي صديقا يحفظ السر ثابتا
على العهد يا حظي الذي لا يحالفُ
وهذا متعذر يا موسى، حظوظنا كلها مثل حظك!
وهو ذكي جدا في معرفته بعدم قدرة حبيبته على الصبر:
ثقي بصبركِ حتى ينتهي لنرى
إن انتهى الصبر ماذا تنفع الثقة؟
وهذا بيت عجيب وفي نفس الوقت بيت ماكر.
وهو دائما يريد أن يقول أن ما به أقوى من أن يتحمّله لوحده ويريد حتى من الليل أن يجرّب معاناته:
وعاتبني الليل الذي أنا عتمُهُ
على كل ما قد ضاع بي وبكِ اهتدى
فأعطيته عيني وقلت التفت بها
إلى وجه من أحببتها فتنهّدا
وأعجب شيء قرأته هو استسلامه لحبيبته لقتله؛ بل ويختار الطريقة التي سوف تذبحه بها:
أعيدي شبابي مثلما كان واسمحي
لقلبي أن يختار موتا محددا
إذا كنتُ مقتولا ولا بد، فامسحي
بكفّيك قلبي قبل أن يتشهدا
دعي يدكِ البيضاء تحمرّ من دمي
وتخضلّ من دمعي، لتشهد لي غدا
ومرّي على ذكري كما مر طائرٌ
على غصنه المكسور مثلي فغردا
ضحيتكِ الأولى أنا يا حبيبتي
ذهبتُ سدى بالله لا تذهبي سدى
لقد كنتُ أدري أن للبين رحلة
ولكنّك اخترتِ الطريق المعقّدا
لماذا تعجلتِ الختام وربّنا
يرتّب من فوق السماوات موعدا
قتلتِ الندى والعز والجود جملة
بقتلكِ لي فابكيه كُلا على حِدا
هل ستقتله بعد هذا السكر المذاب؟ هي خرقاء إن فعلت ذلك؛ لأنها ستحرمنا هذا السحر الحلال.
والديوان كله مليء بالجواهر التي أريد أن أعرّج عليها ولكن لا أستطيع لكثرتها؛ ولكن سأختار:
ولأنتِ أجوائي التي قدسّتها
فلم انقلبتِ عليّ يا أجوائي
**
تعلّمت من عُرف المساكين منطقٌ
وما عاد في عرف المساكين منطقُ
**
فيداكِ أنعم مُدية عربيةٍ
مرّت على جسدي مرور الماء
**
مدّوا سيوفهم على أحلامنا
حتى نمدّ إلى السيوف رقابا
وهناك أبيات فاخرة عذبة رقراقة عن موطنه سوريا ودمشق ولو أتيت بها كلها لطالت القراءة جدا؛ لكني أختم ببيت من أعذب ما قرأت:
من هوى الشام نسمةٌ دمشقتني
فتدمشقت رغم طول البعادِ
بالله عليكم لو ضربت رأسي بسارية هل أنا ملام؟ لا والله.
الديوان من القطع المتوسط من إصدارات جفرا ناشرون وموزعون، الصادر في عام 2022 ويقع في 134 صفحة.