مكتباتهم

أول ما لفتني في هذا الكتاب العنوان (مكتباتهم)

من هؤلاء؟ وما هي هذه المكتبات التي تخصهم؟ ولماذا لا يوجد عنوان فرعي يشرح هذا العنوان القصير..لقد استفزني هذا العنوان والتقطت الكتاب من الرف مقلبا صفحاته لإسكات هدير الأسئلة في رأسي.

قلّبته بسرعة قارئا المقدمة والفهرس، وبضع صفحات من داخل الكتاب، وللأسف فاز بإعجابي واشتريته.

ذهبت للبيت وبدأت بالقراءة فيه، بديت مسرعا ثم وجدت نفسي أخفف السرعة اضطرارا لأن اللغة المعجمية للمؤلف لغة لا تشابه لغة أي مؤلف سابق قد قرأت له، إنها لغة فخمة محككة، تم اختيار الكلمات بعناية فائقة، وكل كلمة كُتبت في موضعها هي مقصودة لذاتها.

لغة سامقة عربية خالصة تؤدي المعنى بأسهل أسلوب، وأعلى بلاغة.

لم أتذكر حينها إلا عبدالدائم السلامي وكتابه النص المعنف، لا أدري لماذا، لكن ربما بينهما رابط مشترك.

العجيب لدى المؤلف أنه يبني مقالة كاملة ويوّلد أفكارا ويستفيض في الشرح والإطناب بسبب سطر واحد أو موقف لمؤلف، فمثلا يكتب مقالة بعنوان: مكتبة باموك، وجوهر المقالة كله يتحدث عن التخلي والاستغناء، وكل ذلك مردّه أو يعود منزعه إلى كتاب ألوان أخرى لباموك الذي ذكر فيه المنهج الأمثل لطريقة التخلص من الكتب وهو تخلص عشوائي لا منطق يحكمه إلا منطق إفراغ المكتبة، وهذا الأمر ليس سهلا أبدا، وإنما يدل هذا على عمق الاستدلال لدى محمد آيت حنا، وسعة إدراكه وقدرته على تثوير المعاني واستنباط الحِكم.

في هذا الكتاب ستجد أفكارا تزن حِمل بعير، والذكي من استفاد من هذه الأفكار والتي ليست موجودة على قارعة الطريق؛ بل هي موجودة على طبق فاخر وطاولة فخمة بحضور أميز وألمع العقول على مر التاريخ.

إنه يتحدث عن أنواع القراء فهو يفرق بين القارئ النهم وبين مقتني الكتب، ويتساءل بسؤال وجودي: ماذا لو قرر الجميع أن يصيروا كتّابا؟
ويتحدث عن فرضية انعدام وانحسار العالم لدرجة أن أثرى أثرياء العالم سيقايض نصف كوب نقي من الماء بثروته، فهل في هذه الحالة وهذا الوقت سيكون للقراءة وللكتاب وللمكتبة أهمية؟

ويتحدث بكل حب وفلسفة أيضا عن الفراغات الموجودة في المكتبة ويشببها بالفراغات البشعة الشاسعة بين الأسنان، فيقول كما أن كمال الإسنان اصطكاكها مع بعض فكذلك حال الكتب في المكتبة، لا ينبغي أن يكون بينها فراغات، وهذا تشبيه حسن.

لا أستطيع القبض والتنبيه على كل فكرة حسنة في الكتاب؛ لأنها أكثر من أن تحصى، وأعز من أن تعيّن؛ لكنني أقول أن هذا الكتاب تحديدا هو الصديق الوفي وهو الذي تستطيع بلا تفكير أن تستغني عن الأصحاب به.

الكتاب كارثة جمالية، ومنجم أفكار، وخزانة من الآراء.

الكتاب من القطع المتوسط يقع في 166 صفحة، من إصدارات دار تكوين، الصادر في عام 2022م.