من غنائمي من معرض أبو ظبي للكتاب2023 الأعمال الكاملة لرياض الصالح الحسين.
ما هذه الإشارات الغريبة والمصادفات العجيبة، بالأمس القريب كنت اقرأ لحسن مطلك الذي توفي عن عمر التاسعة والعشرين، والآن اقرأ لرياض الذي توفي عن نفس العمر أو قريب منه!!
المبدعون يموتون سريعا..
كتب منذر مصري مقدمة لهذه الأعمال بعنوان سيرة موت ناقص، الذي استقصى فيها ما استطاع عن رياض بحكم أن الراحل لم يكن يحب أن يتحدث عن أموره الشخصية، فلا يُدرى متى ولد ولا أين ومن هي أمه بالضبط، لأنه كان يتكتم جدا ولا يحب الفضوليين لدرجة أنه يحجز مقعدين بجانبه في الباص حتى لا يفاجأه أحد بأسئلة فضولية، يريد أن يكون خفيا عن الآخرين.
إذا كانت هناك سيرة ناقصة جميلة فهي سيرة رياض، أريد أن تكون لي مثل هذه السيرة، ومثل هذا الاهتمام بعد موتي.
يقول في قصيدة أنا الرجل السيء:
أنا الرجل السيء
كان علي أن أموت صغيرا
قبل أن أعرف الأشجار الإرهابية ومافيا السلام
والغجرية التي أهدتني تعويذة وقبلة
وكثيرا من الأكاذيب..
فعلا لقد مات صغيرا
يسأل صديقته:
صديقتي لحم ودم وخراب
في الشارع اسأل صديقتي
(الشارع ضيق عندما نبكي
قليل عندما نشتاق).
اسأل صديقتي:
لماذا للمرة الألف، نباد؟
منقطعان عن الحب
وبعد قليل يغطي الغبار جسدينا
بعد قليل نتشبث بغصن التعب
متعبان البارحة..متعبان اليوم
وربما غدا، أيضا، نكون متعبين
فمي مباد ولذا لا أستطيع أن أقبلك
يداي مباداتان ولذا
لا أستطيع أن أسرقك من البرد
في المقهى ننام
في الشارع نبكي
إنه لا يملك أي شيء في الدنيا:
وبما أنني لا أملك تابوتا ولا قبرا ولا كفنا
فلقد قررت أن أحيل بعدد الموتى
فعلا حينما مات أخرجوه من المستشفى عاريا إلا من سروال داخلي قصير..
يا للمفارقة في الشيء الذي يبحث عنه الرجل والشيء الذي تبحث عنه المرأة:
ثمة رجل يبحث في جيوبه عن امرأة
ثمة امرأة تبحث عن حذائها في الطريق
كلٌ يبحث عما يهمه!
متخم الديوان بالصور المذهلة:
-أصابعها تتحرك كقطيع من الوعول في شعري.
-المرأة التي تركت على سترتي صوتها المضيء.
-ترى هل تختبئ في فمك أغنية، أم نقالة موتى؟
-ولأنني مهشم كثيرا بالفؤوس
التي صنعت لتقليم الأشجار
-الأسئلة البسيطة قذيفة
الأسئلة المعقدة انتحار
-وتعود إلى بيتها بصدر معبأ بالليل والنجوم.
-حبيبتي الممتلئة بالأعياد.
سأقول الحقيقة عارية: لم أحسد أحدا على إبداعاته مثلما حسدت رياض، لا أقول غبطة؛ لكنه الحسد..
رياض لديه ذلك الإبداع السلس الممتنع الذي إذا قرأته ظننت أنك تستطيع أن تكتب مثله، وما إن تبدأ في الكتابة حتى تدرس كم ذلك “السهل” ممتنع فعلا..
قصائده عنيفة بسلام، وادعة بدموع..
هو ليس كالماغوط يهرول بين الصفحات بهراوة، بالطبع يملك أداة حادة لكن محنطة..حتى حينما أراد تعريف نفسه قال:
أنا زهرة برية
تحت جنزير دبابة
ألا تريد أن تقطفني قبل أن أموت؟
ثم ما هذا الشاعر الذي تحضر لديه أمساء الفواكه بكل هذه الكثافة: البرتقال والتفاح والعنب والأناناس؟
على هذه الكثافة الفواكهية إلا أن هناك لغة عسكرية تمتزج بالدم ولذلك نرى مفردات كثيرة مثل: خندق/ قبر/ موت/ مسدس/ رصاص/ سكين/ كلّاب/ دم..إلخ.
شعرت أنه صديقي بعد الفراغ من قراءة شعره لاسيما بعد استحضاري لإهداء ديوانه الأول فقد أهداه إلى: الدنيا والناس.
الكتاب من القطع المتوسط يقع في 308 صفحة من إصدارات منشورات المتوسط في إيطاليا، الصادر عام 2016.