كتاب جانا الهوى لأشواق الخليفة.
أشواق الخليفة كاتبة كويتية.
من أول رؤية للكتاب يتضح من غلافه احتفاء المؤلفة بالغناء؛ لأن أشهر المغنيين حاضرين في صورة الغلاف أمثال: عبدالحليم حافظ، وأم كلثوم، وطلاح مداح، وفيروز، وكذلك لوحة طريق تشير إلى مدينة الجهراء، وهي مدينة الشاعرة.
يبدأ الكتاب بإهداء مثير للرحمة والدهشة والحنيّة، إنها العتبة التي ستدخلك إلى عوالم أخرى عالية المستوى من منسوب الإبداع.
الكتاب عبارة عن نصوص نثرية وقصائد شعرية، يسبق كل قصيدة نص نثري محكم، يعبّر عن مكنون الذات بقالب نثري وهّاج.
تقول:
أخش الدمع بعيوني وأقول نعاس
بعيدة عن وطن صدرك ومغتربة
ومحاولة إخفاء الدمع معروفة قديمة كما قال بشار بن برد حينما اشتكى للغواني ويحاول تبرير نزول الدمع بدخول العود في عينه:
شكوتُ إلى الغواني ما ألاقي
وقلت لهنّ ما يومي بعيدُ
ففاضت عبرة أشفقت منها
تسيل كأن وابلها الفريدُ
فقلن بكيتَ، قلت لهنّ كلّا
وقد يبكي من الشوق الجليدُ
ولكني أصاب سواد عيني
عويد قذى، له طرف حديدُ
فقلن فما لدمعهما سواء
أكلتا مقلتيك أصاب عودُ؟
وعندي أن “أشواق” أجادت الاعتذار بالنعاس عوضا عن “عويد قذى” بشار.
وهي تقول أنها مشغولة بأمور أكبر من “الكتابة”، ولا أعتقد أن هناك شيء أكبر من الكتابة بالنسبة للكاتب أو الشاعر لأن النص هو الأقنيم الثاني للكاتب ولا يمكن أن يكون الإنسان خارج حكايته كما قال د.عبدالدائم السلامي:
(ليس باستطاعة الإنسان أن يوجد خارح حكايته، ولا يمكن له أن يكون بطلا في حكاية غيره؛ لأن حكاية كل واحد منا إنما هي حياته، وهي الشيء الشخصي الذي يميّزه كالبصمة).
ومن قصيدة أخرى تقول:
وجاء بعده كثير أشخاص حبّوني
وأنا أحسب ما يجي قبله ولا بعده
وفي هذا تصريح منها بأنها لا تؤمن بالحب الأول، وإنما الحب الأصلح والأجدر؛ لأنها أيضا في موضع ثاني من الكتاب تقول:
ليتني ما قلت لك (حبيّت ثاني)
وليتني ما قلت ذاك اليوم: روح
إنها من مدرسة “التخلي”، وليست من مدرسة الاحتفاظ بالحب رغم عيوبه، الحب لا يتم الاحتفاظ به إذا كان مؤذيا.
وبسبب أن الحب عذاب، فهي تحنّ إلى أن ترجع صغيرة، طفلة، وتحن إلى ذلك السن الصغير الذي تكون القرارات فيه إلى الوالدين:
أحتاج لأن تعود قراراتي لموافقة أمي،
ولمراقبة أبي لوقت رجوعي إلى المنزل بالدقائق،
أحن إلى نفسي القديمة فقط.
هي لا تحن لنفسها وإنما تحن لطفولتها، إنها تتألم من كونها “كبيرة” وليست هي الوحيدة التي تكره أن تكون كبيرة؛ لأنها مشكلة عويصة أن تكون “كبيرهم” الذي يعلّمهم الصبر؛ فالكبير لا يملك رفاهية الإنهيار.
الكبير دائما يجب أن يكون متجلدا على الأقل أمامهم، ويمارس انكساراته خلف الكواليس.
أحيانا تكون كريمة شعور وتعطي فرصة ثانية، ولكنها تعلم أن هذه الفرصة الثاني هي خيبة مقصودة:
الفرصة الثانية هزيمة مكررة، ولكن برضاك وعلمك هذه المرة.
وهي تتفق مع المقولة الشهيرة: المشهد كان واضحا، أنت الذي لم ترد أن تشاهد.
إنها تشتكي من المسافة فتقول:
كريم قلبك، وحظ قلبي بخيل
يوم اجمعتنا مشاعر ما جمعنا مسار
والمسافة لا تمنع الحب؛ ولكنها تمنع اللمس.
إنها تتغنى بالحب الأفلاطوني:
(كنت أجمل في خيالي).
وهذه مشكلة الحب أن المحب يعطي المحبوب كمالات ليست فيه، ولذلك قيل أن الحب أعمى، ومع ذلك فهي تشترط في الحب شرطا أن يكون متبادلا ولا يكون من طرف واحد، وتتفق في ذلك مع “القوطيون” الذين يرون وجوب تبادل المحبة حتى تسمى هذه العلاقة “حبا”، فتقول أشواق:
لا يكفي أن تقول عن شخص (حبيبي) ليصدق العالم بأسره أنه حبيبك.
طالما هو بذاته غير معترف بكونه حبيبك ولم يقل إطلاقا لك أنه يحبك.
وهي تؤيد مبدأ الألم على مبدأ اللذة فتقول:
أنا كلي حزن بعده وكلي ذوق
غيابه كثر ما يجرح؟ تحلويته
عطاني للقصايد واهس وطاروق
بكيته داخلي كل ما تغنيته
فاتخذت من رحيله وقودا لقصائدها، وتركت الحب يبكي جانبا في زاوية الغرفة، هكذا هم الشعراء يستفيدون من كل شيء..
ولديها في هذا الكتاب اعتراف جميل وقلما نجد أنثى تعترف بهذا:
لو شفتني ثابته فالصد يعنني
لا تأخذك عزتك وتقوللي: روحي
فالمرأة غالبا حينما تأمرك بشيء، فإنما تريد خلافه، فإذا قالت لك لا أريد أن أراك، فهي تنتظر منك أن تغلق المصباح وتبقى بجانبها؛ ولكن نحن الرجال لا نفهم هذا الأمر فنذهب فعليا.
والمؤلفة وفيّة جدا مع المحيط حولها فهي تذكر الوالدين وزوجها وأخوها والكثير من صديقاتها في العمل، فالكتاب عبارة عن مونولوج ذاتي لأشواق.
هذا الكتاب بالنسبة لي هو هدية معرض الرياض الدولي للكتاب، فمعرفتي بكمية الجمال المكنوز في هذا الكتاب يغنيني لفترة طويلة عن القراءة.
كنت اقرأ قبل كتابها حروفا، ولكني الآن اقرأ أدبا حقيقيا.
شكرا لدار تقاسيم التي أظهرت للنور هذا الجمال، وهذا البهاء، وشكرا لأشواق، التي كانت أشواق فعلا.
الكتاب من القطع المتوسط يقع في 122 صفحة، من إصدارات دار تقاسيم للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية الصادرة في عام 2021م.