سنويا في الثامن عشر من صفر أقفز خطوة للأمام، لأكمل مسيرة الخال/م دة.
لم أفكر كثيرا إذا وصلت الثلاثين كيف ستبدو الحياة، أو كيف سأكون حينها..
لكني بعدما تجاوزلت الثلاثين بخطوتين؛ أعتقد أنه لا شيء جدير بالإهتمام!!
هناك فروقات حصلت وشعرت بها جليا، حينما وصلت للتاسعة والعشرين، وما بعدها..
ولعل أهم خصلة كانت هي تغيّر الأهواء، والمحبوبات، والأصدقاء..
المحبوبات من المأكولات والمشروبات وحتى الأماكن، تتغير مع تقدمك في السن..
حينما وضعت نصف رجلي في بحر الثلاثين توقعت أنه سيصيبني داء الحكمة، وسأكون أكثر توازنا في الحياة؛ لكني اكتشفت أني صرت مضطربا أكثر من السابق، وأن الحكمة تنفلت من تفاريج أصابعي، ولم أعد أركن إلى أحد..
والأصدقاء -لا كثرهم الله- أضافوا لمسات سحرية على هذه التجربة في بحر الثلاثين، وجعلوها مشعللة بالنكهات الحارة، والتي جعلتني أؤمن أن الصداقة خرافة من ضمن الخرافات..
أرأف كثيرا بمن هم أصغر عمرا لتلهفهم على أن يصبحوا كبارا؛ فهانحن من الكبار وما الميزة؟!! لا شيء سوى الهم والغم والمسؤليات المتزايدة..
وهذه الطريق لست فيها لوحدي فهذا وجيه غالي يقول:
“عندما كنت في العشرين في عمري، كنت أتطلع الى الثلاثين باعتبارها نهاية لشرودي العقلي والجسدي، والآن بعد أن أصبحت في الثلاثين من عمري، لم أعد أتطلع إلى شيء، لأنني أعلم أن الأمور ستستمر بهذه الطريقة”
ميزة بحر الثلاثين أنه حككني حتى علمت أني وحيد في هذه المعمورة، أحارب كل هذه الجيوش بمفردي..
لقد صدق الذي همس لي في أذني وأنا في غمرة جذلي بين الناس: أنت وحيد ما لم يثبت عكس ذلك!!
لربما كنت قبلا أظن أني من محاور الكون وأن الناس لطالما تفكرني بي؛ لكن الثلاثين كانت تحمل المرآة أمامي دائما، واكتشفت أني لوحدي دائما وليس خلفي أحد والناس يمرون عجلى دون الانتباه أصلا؛ فعشت حياتي حسب احتياجاتي لا احتياجاتهم وخلعت ثوب الظن أنهم يفكرون بي..
علمتني الثلاثين ألا أختبر النهر مرتين، وأنه ليس هناك شيء مجاني أبدا، وأن العيش بالعرض أرحب من العيش بالطول..
لقد خسرت من عمري سنينا لأدرك أن الحب خارج المثلث يختلف جذريا عن داخله، وأن حب “العابرين” يورث تشويشا أبديا..
علقت ثوب اصطباري على مشجب السنين، وجلست عاريا من الأمنيات استقبل وفود السنين بمفردي..
إن كانت السنوات القادمة مثل الثلاثين الماضية: فيا حسرتاه لقد ضيعت أيامي.
تم نشر هذه المقالة في صحيفة الجزيرة الثقافية:
بحر الثلاثين
يقول المنفلوطي :
السبب في شقاء الإنسان أنه دائماً يزهد في سعادة يومه ويلهو عنها بما يتطلع إليه من سعادة غده.
فإذا جاء غده أعتقد أن أمسه كان خيراً من يومه ، فهو لاينفك شقياً في حاضره وماضيه.
و أنا لتوي أبصرت فجر العشرين ،اتسعت عيناي و ذهل عقلي و تجمد لِلَحظة ، احتار أمذنبٌ هوَ أم ضحية، أللإدراك يد؟ وقف وابتعد ورأى الصورة التي لم تكتمل بعد، يعتقد أنها مكتملة لكنها تفتقد الكثير من القطع ، و بالواقع لن يخبرك أحد بالحقيقة كاملة عادتًا ، غالبًا ما تكون ناقصة ، لكن إدراكك لبعض تفاصيلها غذاء دسم لعقلك. عقلي اتسعت مداركه ، فهم الكثير وأدرك أنه متباهٍ ، يعتقد أنه عالم . نصب سارية يرفرف علمها بـ( ليس كل ما تراه العين هو الحكم) .
كل عام تهديني الحياة قدرًا لا بأس به من خيبات الأمل ، أحملها على عنقي و أسير ، ما زال في جعبتي متسع . و في كل زوبعة تنتشلني أتلحف بأذرعي خوفًا و رعبًا من تقتلع قلبي من أوردته ، و تلقي به حتى يصبح متعفرًا بتراب الحزن و الكمد ، أخرج منها جريحة ، و قطرات الدم تتساقط من جسدي ، صدري كاد أن ينتهك ، و دماغي كاد أن ينفجر ، بفضلٍ من الله ورحمته أشفى سريعًا ، و أحصد الكثير مما خسرته ، يطول الفهرس و تزداد الصفحات ، مخطوطة بقلم الرصاص ، تلك المعروفة بالعناوين المتغيرة ، فلا أظن أن عنوانًا قد ثبت .
في وسط الزوبعة صغرت دائرتي ومحيطي اتسع ، يدايَّ خاليتا الوفاض أما عقلي فجنى الغنائم ، و في كل مرة أتيقن أني لا أملك إلا عائلتي و أصدقاء ظفرت بهم من زمن ، نادرًا ما تتسع هذه الدائرة، و كثيرًا ما تتقلص .
أزعجوا دماغي كثيرًا بالركض وراء الحياة و أنها معدودة الثواني ، فإما أن تجري كما يجري الناس و تقفز بقفزات عملاقة و إلا فأنت خاسر ، أأخطبوطٌ أنا أم بشر ؟ أأملك ثمانية أذرع و ثلاثة قلوب؟ عجبٌ أمرهم! أذكر نفسي بذلك دومًا ، فالتعلم في الحياة مستمر ، و الإنجاز قد يتبعه ، و ربي سبحانه تكفل برزق من خلق .
هل أنا ممن يتلهف لكي يكبر؟ بالحقيقة أنا متشوقة لتلك التجارب الجديدة و أخاف جدًا و أرتعب من مر لا يستساغ ، و لكن أحيانًا يجب عليك تتجرع تلك المرارة من أجل تكبر ، من أجل أن تفهم ، أن تكسب و أن يكبر عقلك ، و اتساع المعرفة هَمٌ بقدر ما هو غنيمة.
اعلم أن خيرك بداخلك أن تخرجه، ينام الشر بجانبه أنت توقظه، و أنت أول عدوٌ لنفسك و المعول الذي بيدك باستطاعته أن يهدمك و هو من يرممك. و انظر بقلبك و عقلك معًا و لا تثق بكل ما تراه عينك ، فالجمال يكمن بأبسط الأشياء. و احمي جروحك و لا تسمح لأحد بأن يحك قشورها فتراها تنزف من جديد.
و إن كنت ممن يشجع على إبداء الجميل من المشاعر إلا أننا جميعنا لا نتكلم بنفس اللغة، فالحب لا ينطق دائمًا ، و يستحال أن ترى له وجهًا واحدًا ، تراه في الطفل عندما يشارك أخته سكاكره و يحزن و يضيق عندما يجرب لعبة جديدة و هي ليست بجانبه ، صديق متلهف لرؤيتك فهل لك أن تشتاق لشيء و قلبك منه خالٍ ، ليست العين دائمًا هي الحكم أعط لعقلك متسع.
يومٌ سأترك هذه الأرض و تحل مكاني أشجاري يجب أن تثمر و تشبع غيري من بعدي، تشبعه لا تسممه و تقتله !