كل شخص في هذا الكون يريد أن يكون مميزا؛ ولكن الشاعر تحديدا يبحث عن التميز في كل شيء.
الشاعر يبحث عن التميز في ملابسه، وطريقة كلامه، وربما مشيته، وهذا ليس عيبا؛ بل إن الشعراء قديما كان لها زيَّا يُعرفون به كما نصّ على ذلك الجاحظ؛ بيد أنا بُلينا في الأزمنة المتأخرة بالشعراء الذين يتميزون في كل شيء سوى شعرهم!!
ترى الواحد منهم يهتم بعصاته ولبس عمامته وسبحته، وفوق ذلك هو تيّاه؛ بل إن بعضهم -رزقه الله العقل- حينما سُئل عن شاعرٍ آخر قال: فليحمد الله أنه جاء قبلي ولم يأتي في عصري..
ومثل هذا ما ذكره محمد كرد علي عن جميل الزهاوي بأنه مولع بالغرائب فاخترع حروفا بدعوى أن حروفنا لا تصلح للكتابة فتجاهله الناس، ثم ادّعى أن الشعر تقيّده القوافي فاخترع شعرا فلم يفلح، وطالب باعتماد اللهجة العامية عوضا عن الفصحى فلم يُسمع له، وما جره ذلك إلا ليُقال فليسوف مجدد!!
وأعرف شاعرا كان يتسوّل الأفكار من الأصدقاء، فيقول هل هناك عبارة رائعة سمعها أحدكم؟ وهل هناك قافية بكر لم تطرق من قبل؟ فإن قيل له نعم: انتحى في زاوية وبدأ يكتب الكلمات الموجودة على هذه القافية الصعبة وبدأ ينظم شيئا باردا باهتا كبرودة روحه المتسولة.
لا مانع من التثاقف، وسماع الجديد من الأخبار، والحكايات، وهذه عادة الشعراء منذ الأزل؛ لكنهم كانوا هم يبحثون بأنفسهم ويضربون في الأرض، ويسعون من أجل تجديد المياه الجوفية للأفكار، ولا ينتظرون الناس بأفكارهم وقوافيهم الأبكار!!
ذكر صاحب كتاب (طقوس فنية، كيف يعمل المبدعون) غرائب عن بعض الأدباء والشعراء والعلماء وطقوسهم في اليوم والليلة عن برنامج حياتهم اليومي، غير أن هذه الغرائب كانت مقرونة بالإنتاج الأدبي والمعرفي والفلسفي..
أغرب كيفما شئت؛ ولكن يا ليت أن يصاحب هذا الإغراب نتيجة ملموسة!!
ولو جئنا إلى ذكر المتنبي، أشهر شعراء العربية فإنه لم يكن شاعر سليقة فحسب أو صاحب طنطات و سجعات؛ بل كان أوسع الشعراء في زمانه معرفة باللغة وآدابها، وبالثقافة الأجنبية التي انتقلت إليها، وقيل إنه كان يحفظ ديواني (أبي تمام) و(البحتري) وإنه جمع شعر ابن الرومي كله، وأضاف إلى علمه باللغة علما بالفلسفة وأقوال المتكلمين والمعتزلة، وقيل أنه في يوم وفاته كان معه في خِرجه كتبا عن الفلسفة.
إذن الرجل ما زال مهتما بالتثقف حتى آخر يوم في حياته!!
ليت الشعراء يهتمون بتجديد ينابيعهم الفكرية، وإثرائها، وتنويع مشاربهم عوضا عن الإنهماك في الملبس والرتوش التي لا تغني ولا تسمن من جوع..
لقد ولى زمان الشعر، وجاء زمن المستشعرين.
*تم نشر هذه المقالة في العدد التاسع والستين من مجلة فرقد:
https://fargad.sa/?p=45670