سافرنا أنا وصديقي يزيد إلى أبو ظبي من أجل حضور معرض أبو ظبي للكتاب وسكنّا في فندق على الشاطئ وكان الجو شاعريا لدرجة عميقة فقال لي الصديق: لابد أن تكتب الآن فهذا الجو الشاعري ومنظر الشاطئ توقد المشاعر في نفس أيَّ شاعرٍ للكتابة. الحقيقة أني مستمتع بالأجواء حد الاسترخاء لكن رغم جمال المكان وصفاء الجو، وهدوء البحر إلا أن كل هذا لم يحرك ربة إلهامي للكتابة، وقلت له: لا أشعر بشيء، قال كيف؟ قلت: الشاعر ابن بيئته وهذه ليست بيئتي، ولو كنت في سَموم الرياض وغبارها لانفجرت أكتب عشرات الصفحات فأنا كائن صحراوي لا صنوبري، فتعجب مني أشد الإعجاب بل شكك في موهبتي الكتابية وأن الذي لا يكتب في مثل هذه الأجواء البديعة هو وعِيرٌ في الفلاة سواء.
تشييزاري بافيزي يقول:
(هذا المساء، ماشيا أسفل الجروف الصخرية الحمر المشرقة بضوء القمر. أي قصيدة عظيمة يمكن أن تكتب في هذا المكان. لماذا لا يمكنني أن أكتب عن هذه الجروف الحمر، المقمرة؟ لأنها لا تعكس شيئا من نفسي، يصيبني المكان بالقلق لا أكثر، لو كانت هذه الصخور في بييموتي لاستطعت جيدا استيعابها في صورة وأسبغت عليها معنى).
ومما يؤيد رأيي ورأي بافيزي أن التاريخ لم يحفظ لنا أية قصيدة لامرؤ القيس حينما ذهب للروم، وكانت الروم آنذاك جناتٌ خضراء، وأنهارٌ تجري، وطبيعةٌ لم يكن مثلها في البلاد أبدا؛ ولكن كل هذا لم يعمل عمله في نفسية شاعرنا، والسبب أن بواعث الإحساس والشعور والكتابة في وطنه تختلف عنها رغم جمالية المكان وشاعريته. فإذا كانت الأراضي البيزنطية لم تبعث الأشجان في روح امرؤ القيس، والجروف الحمراء لم تحرك نفس بافيزي، فماذا عسى الشاطئ أن يعمل في ربة إلهامي؟ البيئة بمفهومها الواسع الكبير لها أثر حتى في النظر إلى النفس بكل صدق وحيادية فبورخيس مثلا كان يصاب بالرعب حينما يرى نفسه في المرآة، وبيسوا حينما رأى نفسه في صورة جماعية قال: (وجهي النحيف اللامعبر خالٍ من أمارات الذكاء ومن الحدة ومن كل ما يمكن أن يعلو به فوق حركة المد الميت للأوجه الأخرى). كان يرى أن هناك وجوه أخرى معبرة في الصورة أكثر منه.
وكافكا يقول عن شحمة أذنه: (إن شحمة أذني تبدو غضة وصلبة، باردة وطرية وكأنها ورقة. ومن المؤكد أنني أكتب هذا كله من واقع اليأس من جسدي، ومن المستقبل مع هذا الجسد). هل يستطيع كاتب عربي أن يتحدث عن جسده بهذه الصرامة وهذه الصراحة؟ البيئة تمنعه من ذلك.
*نشر في العدد الرابع والثلاثين من مجلة فرقد: