رأسي مقبرة جماعية لصبا قاسم.
صبا قاسم شاعرة سورية.
لقد ذكرتني الشاعرة بأسلوبها العذب، وتشبيهاتها الرائعة بديوان كلمات رديئة للشاعر ميثم راضي.
إنه شعر حقيقي يحفز الإلهام في رأس القارئ.
يجعلك تتصبب عرقا من دهشة الصور البلاغية المكتنزة داخل الديوان مثل قولها:
لا أعقاب سجائر في رأسي،
من أين يأتي هذا الدخان كله؟
وقولها حينما دخلت الأربعين:
في الأربعين لن يخشى الماء
على نفسه العطش
الماء له عينان إنما ليس له ذاكرة..
وقولها في قصيدة:
عندنا كنت أظن القصيدة
تسريحة جميلة
لابد من يد كوافيرٍ ماهر
كي تخرج على هيئة مودل
كنت أبحث
عن مسامير كلماتٍ
أثبت خصل أفكارٍ منكوشة
أو دبابيس ملونة
أشكل فيها نهايات الجدائل
وقولها:
الحب في بلادي
كحبوب منع الطفولة
تحت لسان عجوز
وقولها:
لا أحب الكعب العالي
لأنه يجعلني أسير على رأسي
وأنت تجول في الديوان تجول في واحة غناء، مليئة بالكثاقة الشعرية والاختزال غير المخل، والاختراع المتجدد.
يبدأ التجلي من عنوان الكتاب: رأسي مقبرة جماعية، أي توفيق في اختيار هذا العنوان على رغم سوداويته.
السوداوية تلوح في الأفق كثيرا فترى أن مفردات مثل (أمطار الدم، ميّت يدعو ربه، طلقات رصاص، مواكب الموت، الأموات، جندي مهزوم، في الحرب أخاف أن أسير بين الجنائز، قدمٌ في القبر، الموت اللذيذ) تكررت كثيرا هذه الكلمات ومثيلاتها وهذه لغة تابوتية، دموية، حربية، تدل على حزنٍ عميق متأصل متجذر في قعر الروح، وتكرار مفردات الموت وما يحتف بها يشعرنا بهوان الدنيا لدى الشاعرة، التي من الممكن أنها تغازل الموت من طرف خفي بسبب الواقع المأزوم في وطنها.
إنها متشائمة جدا إذ تقول:
الفرح إبرة
رمتها خيوط الوقت
بين أكوام القش
وترى الحب في مدينتها لا ينمو إلا في الأماكن الضيقة، وهذا فيه تشخيص واقعي للحب في هذا الزمن الذي سُلّعت فيه المشاعر، وصار جنسا في الأماكن الضيقة:
في مدينتي
كلما ضاقت الأزقة
كثر العشاق
هذا الديوان يجعلك تنتقل من مرحلة إلى مرحلة هو يدفعك نحو الأعلى، ويجذبك معه للأمام.
قراءة هذا الديوان ستصيبك بالعدوى، عدوى الإبداع، ستظن -جاهلا- أنك تستطيع أن تكتب مثله، وحين تشرع في الكتابة ستدرك مقدار الجهد الذي بذلته المؤلفة حتى يصل إلينا شعرها حارا دافئا.
إن هذا الكتاب معالجة شعرية لقبيلة الشعر، هذه القبيلة التي كثر فيها الصناعي، وقلّ فيها الأصلي.
شعر الأستاذة صبا قاسم قبلة في فم الشعر الذي يحتضر.
لقد عاد الشعر للحياة وعاد للتنفس من جديد.
الكتاب من القطع المتوسط، يقع في 110 صفحة من إصدارات دار التكوين الصادر عام 2018م.