من كان يتصور أن أجاثا كريستي التي كتبت عن الجريمة والموت بدهاء لا يخلو من الدفء ستعود بعد عقود لتعلمنا الكتابة؟
لقد عادت من خلال الذكاء الاصطناعي في دورة أطلقتها منصة BBC Maestro بصوتها ونبرتها وعباراتها الآخاذة.
ما بين الدهشة والرهبة تقف هذه التجربة على الحد الفاصل بين الإبداع والنسخ وبين الوفاء للتراث والاستفادة منه…أو ربما استغلاله!
هل هذه الخطوة إنجاز تعليمي فريد أم بداية لزمن تغيب فيه الحدود الأخلاقية تحت سطوة الإمكانات التقنية؟
تم تطوير هذه الدورة عبر تعاون تقني وإبداعي معقد: جرى تحليل أعمال كريستي الغزيرة وأرشيفها الشخصي وكتاباتها غير المنشورة ليُبنى نموذج لغوي يحاكي أسلوبها وتدمج هذه البيانات مع أداء ممثلة تُجسّد نبرة صوتها الأصلية وقد تم اختيار الممثلة البريطانية (فيفيان كين) مستعينين بتسجيلات قديمة للكاتبة وملاحظات عائلتها.
تخيلوا ما هي النتيجة؟ أجاثا كريستي “تعلم” طلاب الكتابة أسرار الكتابة وأسرار حبكة الغموض!
الغاية المعلنة: تقديم تجربة تعليمية تفاعلية توصل مبادئ الكتابة البوليسية من خلال أسلوب كريستي.
وقد وافقت عائلتها على المشروع، وهذه الموافقة تضفي “مشروعية” لهذا البرنامج التدريبي.
آمنا بالله أن الفكرة آسرة وجميلة وهي أن تتعلم من كاتبة مميزة وتحاول التماهي مع صوتها الكتابي وتستنير بمذهبها الكتابي وطريقة رؤيتها للحبكة القصصية أو الروائية ونعترف أن هذه واجهة براقة لكن هناك سؤال أخلاقي لا يمكن تجاهله:
من يملك صوت أجاثا كريستي الآن؟ وهل يحق لنا -باسم التعليم أو الحنين– أن نعيدها لتدرّس؟
ثم ماذا عن المستقبل؟ هل سيصبح التعليم حفلة “تحضير أرواح” يقف فيها سقراط إلى جانب سوزان سونتاج؟ أو المتنبي بجانب حاتم علي وهل سيبقى للتجربة الإنسانية وزنها إذا بات بالإمكان استنساخها برمجيا؟
هل هذه الخطوة ثورة تعليمية حقيقية أم أن هناك مخاوف حقيقية حول الرحيل والغياب وإعادة الإحياء؟!
هل ستذهب دهشة الموت؟ وتذهب “حرمة الأموات”؟ ماذا سيكون رد فعل إدارة BBC حينما يتم تقييم “أجاثا كريستي” من أحد المتدربين بعد انتهاء البرنامج التدريبي ويقول: بأن أجاثا معلمة فاشلة وأنه لم يستفد منها شيئا ويطالب باسترداد مبلغه؟!
أعتقد أن الأمر أكبر من تجربة تعليمية إنها مفترق طرق ثقافي وأخلاقي لأن: التعلم من كريستي شيء وأن نعيد خلقها شيء آخر تماما.
هل يكفي إذن العائلة والموافقة القانونية؟ أم أننا بحاجة إلى صوت داخلي يسأل قبل كل خطوة:
ما الذي نخسره حين نعيد الأموات إلى العمل؟
تذكرت بيت ابن الرعلاء حينما قال:
ليس من مات فاستراحَ بميّتٍ
يبدو أن كريستي لم تسترح في موتها ولذلك أعطوها هذا الكورس التدريبي كأوفر تايم بعد التقاعد!
