27مايو

كتاب النص المعنف

كتاب النص المعنف لعبدالدائم السلامي.

عبدالدائم السلامي كاتب تونسي.

إن لديه لغة سامقة محكوكة بالبلاغة، ومرتدية لبوس الطلاوة، يتصرف في القول كيفما أراد، ويأتيه المعنى حيثما أراده وربما تجاوز معناه لفظه..

تكون فقرات كتابه مقطعة في تماسك، كأنها بيت شعري، ثم هو إذا تكلم عن أمرٍ أحكم قبضته عليه حتى يخنقه فهو في هذا كما قيل عن الأصمعي أنه (حتف الكلمة الشرود).

يتحدث بعربية خالصة من الشوائب خلوص اللبن من الغبش، مستدلا بالعلماء الأفذاذ والأدباء الأكابر من الشرق والغرب، من السلف والخلف ببيان قد حسنت ديباجته، وبعرض منطقي يسرق عقول الرجال، ويسلب قلوب ربات الحجال.

عنيف في كثير المواضع وتشعر أنه يعطيك فصل الخطاب فيه كقوله (لا توجد موضوعية في النقد مهما ادعت المناهج ذلك، وحدهم الأموات قد يكتبونإذا كتبوا عن النصوص– بموضوعية عالية) فهو ينفي قطعا الموضوعية ويحيلها إلى الأموات دلالة على انتفائها في عالم الأحياء.

قلمه كسيف الحجاج حاد جدا كحدة آرائه، إنه لا يتلطف ولا يضع مساحيق المجاملة، إنه حلّاق بلاغي يحلق رأس الحقيقة حتى يزيل عنهالمدحالزائد.

لا يضع مراهم على الجروح، بل لديه مقلاع يقلع الوريد من أساسه..

هذا الكتاب لا يصلح للقراءة دفعة واحدة وإلا أصابت قارئه بالتخمة وربما شرق ببعض حروفه فيعجل لقدومه ربه غير راضيا..

إنه يحتاج لرياضة، ومسايسة والتوقف عند حروفه وحدوده، والتمهل جدا في المشي على تلك الأرض التي اخترعها المؤلف لينظر القارئ موضع قدمه حتى لا تزل فتزل الأخرى بعد ثبوتها..

لطالما قلت (إن تحت التراب نوما طويلا) ولكن الليل الطويل هو من أراد أن يلتهم هذا الكتاب في جلسة واحدة، إنه طُعم، وخندق، وفي بعض مواضعه كمين..

إنه يخاتل القارئ من وراء القضايا ويلوّح بسيفه كأنه ملاعب المنايا..

وله آراء غريبة جدا كقوله في النصوص الأدبية الضعيفة: (لعل ما بدا لنا ضعيفا الآن هو نفسه ما سيكون بذرة تجديد أدبي قد نموت قبل أن نتذوق ثمرتها) فهو من جهة يثبت أن لها إبداعا خفيا، وأيضا يقول أن هذا الضعف ينبهنا ويحفزنا لما يعتري الحركة العملية الكتابية من وهن أو قوة.

الكتاب يحمل في هامشه روائع كالتي في المتن تماما.

وذكّرني هامشه ما قاله الدكاترة زكي مبارك في كتاب عبدالقادر حمزة (على هامش مصر القديم): (ولم أجد كتابا يكون فيه الهامش أغزر من الاصل قبل أن أعرف كتاب عبدالقادر، فارجو الالتفات إلى هامش هذا الكتاب أكثر من الالتفات إلى الاصل)، على أني لا أدعو إلى هذا في كتاب الأستاذ لأن الأصل أغزر من الهامش.

إن المؤلف يدعو في كتابه إلى أن تكون القراءة خالية من الكيماويات المنهجية، ويريد أن يعود بالقراءة إلى صدرها الأول لتتخلص من كراس الشروط لتعود القراءة بضة نقية.

هذا الكتاب ثوري فهو يثور على المنهجيات والنظريات ويطالب بالوحدانية والفردانية وأن يكون القارئ هو منهجه نفسه وأن يتذوق النص بخبرته وبمقياسه وألا يستعير من القوم أدواتهم، على أنه لابد أن يكون القارئ متمكنا من فنون لغته ومقولاتها نحوا وصرفا ومجازات.

ثم إنه أعجبني جدا في فكرةالمخرج الروائيوهي خلاف المحرر الأدبي، ولعل قائد الأوركسترا أقرب فكرة إلى المخرج الروائي للعمل الروائي.

والعجيب عنده أن يعلي من شأن القارئ؛ بل يجعل القارئ هو المخوّل الوحيد للنقد لأنه (لا يلبس قفازات منهجية)!

وعندي أن القارئبوصفه المطلقلا يجب أن يحظى بهذا الشرف؛ فما أكثر القراء، وما أقل الفاهمين للمقروء.

ليست القراءة بحد ذاتها شرفا يخوّل صاحبها النقد والانتقاد؛ لأن القراءة لم تكن غاية أبدا، بل هي وسيلة للمعرفة..

وهو يحاول أن يخفف عن نفسه حينما يقرأ نصا جميلا فيقول: (لا عليك، إنك اخترت أن تجيد الاستمتاع بالأدب على أن تكتبه، وإن جودة الاستمتاع بالأدب لأرقى أنواع الأدب نفسه).

وعندي أن هذي متعة الكسالى والبطالين، إذ كيف بالتفرج والتلذذ والاستمتاع يكون أرقى الأنواع؟ إن الكاتب الفاعل الذي ينتج هذه المادة الممتعة لهو الأحق بأن يكون أرقى الأنواع؛ ولكنها النفس التي تحبب الخلود للراحة وتزين من عملها البسيط..

هذا الكتاب عبارة عن (ملاكمة أدبية) ومباراة نقدية على الوزن المفتوح (الوزن الثقيل)..

كما يلعبون الملاكمين في الوزن الثقيل ضربات قليلة لكنها موجعة وقاتلة..

لا وجود للنقد من فئة وزن الريشة في هذا الكتاب..

لقد ذكرني السلامي بعبدالسلام هارون في كتابه قطوف أدبية، ويوسف الخال في كتابه دفاتر الأيام..

بهذا الكتاب يعيد لنا السلامي وهج النقد كما كان في الرعيل الأول..

الكتاب من إصدارات دار مدارك يقع في 187 صفحة من القطع المتوسط، والصادر عام 2020م.

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    تعليق واحد

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *