في إحدى الليالي العادية من ليالي العيد نشر “يافع” لم يتجاوز عمره الحادية عشرة صورة له على منصة X وهو لابس لبس العيد ويعايد بها الناس.
لا تحتوي الصورة على أي محتوى مسيء، لا تهجّم، أو ابتذال أو إسفاف…فقط شاب صغير يعايد الآخرين كما يفعل ملايين غيره.
لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن عاديا:
“من جدك أنت تنزل صورتك وشكلك كذا؟”
“احذف نفسك لو سمحت”
“الإنترنت غير مستعد لكمية القبح الي فيك”
خلال ساعات بسيطة اجتاحت التعليقات ووصلت إلى آلاف الرسائل المليئة بالتهكم والسخرية والاحتقار منه!
الغريب من أصحاب التعليقات أنهم لا يعرفون هذا الشاب شخصيا وعلقوا بتعليقات لا يجرؤون على قولها له وجه لوجه أو في حضرة ذويه!!
السؤال المحير: لماذا تتحول التعليقات إلى ساحة حرب عدائية…بلا سبب حقيقي؟
ربما نجد الإجابة عند علماء النفس فعندهم اسم دقيق لهذا السلوك: تأثير الانفلات على الإنترنت ومعناه أن الإنسان حين يختبئ خلف الشاشة يتصرف بخلاف لو كان في مكان عام وكأن الجهاز الذكي يعطينا جرعة شجاعة زائفة تجعل اللسان ينطلق والضمير يتوقف وهذا لعدة أسباب منها إخفاء الهوية وغياب الآخر واللاوقت أي يكتب الإنسان تعليقه ويفكر لاحقا أو حتى لا يفكر أصلا!.
والذي يفاقم المسألة أكثر أن كثيرا من التعليقات ليست عدائية صريحة إنما مقنّعة “بالمزح”.
“أخيرا لبستي شيء حلو”
“غريبة تقرأ مو عوايدك”
“الله لنا حتى أنت صارت تجيك دعوات خاصة”
هذي هي العدوانية المقنعة والتي هي من أخبث الطرق لأنها توصل الإهانة على هيئة “مزح”.
المشكلة أن أحيانا الشرارة تبدأ من تعليق سلبي واحد فينقض الجمهور كله وينفلت بالتعليقات السلبية وهذا معلوم بحكم “تأثير القطيع” فغوستاف لوبون كتب في القرن الـ19 أن (الجماهير تذيب الفرد داخلها) ومع السوشل ميديا صار هذا التأثير رقميا بامتياز فكلما زادت اللايكات على التعليق العدائي زاد إحساس المتلقي بأن “هذا عادي” فـيشارك أو يسكت أو على الأقل: يضحك!
العدوانية الرقمية تكمن مشكلتها في التبرير؛ فالمسيء يقول:
-أنا صادق ما كذبت.
-هو اللي بدأ ويستاهل اللي جاه.
-ما قلت شي غلط بس الناس حساسة شوي.
وهنا يظهر مفهوم فك الارتباط الأخلاقي ومفاده: إن الإنسان يمكنه أن يوقف ضميره مؤقتا عندما يبرر سلوكه عبر تجريد الضحية من الإنسانية: هذا أصلا نكرة أو إلقاء اللوم عليها: تستاهل ليش نزلت صورتها كذا؟ أو التمويه كنت أمزح بس!.
في هذا العالم الرقمي الذي لا نملك فيه إلا الكلمات فهي وحدها وجهنا وصوتنا: يجب أن نفكر قليلا قبل أن نعلّق.
شوية تفكير قبل أن تكتب (بس مزحة):
ربما الطرف الآخر لا يملك رفاهية الضحك.