2أكتوبر

براءة الإغراء

حينما رأيت إعلان صدور كتاب د.عبدالدائم السلامي (براءة الإغراء) على الفور شريته، كيف لا وهو صاحب كتاب (النص المعنف).

اقتنيته ولكن لم أشرع في قراءته إلا الآن تزامنا مع معرض الكتاب، فكما قيل: الشجون تشبه بعضها.

مشكلتي مع الحب قديمة، فالعاطفة تغلب عندي في كثير من الأمور لاسيما في الكتب، ولقد أحببت السلامي من كتابه الأول؛ فالحب يحملني على اقتناء كتبه دون تفكير.

يأتي هذا الكتاب بمقالات مختلفة المواضيع، يجمعها سمط واحد وهو أسلوب الدكتور الحصيف وطرحه الذي ينمّ عن فهم دقيق، ونظرة ثاقبة للمواضيع، فإنه مثلا يعرض لقضية الحب التي أشبعت طرحا عبر القرون؛ ولكنه بأدواته المعرفية الضخمة يثير تساؤلا جديدا وغريبا وفريدا في آنٍ واحد فيقول: هل من طبيعة الدولة أن تحبنا نحن الشعب؟

إنه سؤال مثير وخطير وفخ أيضا؛ بيد أن السلامي يتجلى في الجواب الذي هو أعظم من السؤال فيقول:
(والحق أقول إنه ليس من شأن الدولة أن تحب أصلا.
الدولة ليست مصنوعة للحب؛ لأنها متى أحبت خانت طبيعتها وتهاوت أركانها وفتحت بابا للفساد؛ ولذلك يتوجب عليها ألَّا تحب لتظلّ حية وحصينة وجريئة.
ومن ثمة فهي كيان بلا عاطفة، بل قل: إن لها عواطف قانونية واقتصادية وإدارية وأمنية وعسكرية بلا عاطفة آدمية، وهي لا تحبّ بتلك العواطف ولا تكره، وإنما تعرف بها الصواب والواجب وتضمن بها استمرارها).

ثم إنه يحلّق بك في ربوة أخرى من التضاد المعنوي في مقالة له بعنوان (أدب سوء النية) وكيف يكون أدباً وهو سيء النية؟
إن هذه اجتراحات السلامي التي جعلتني أتتبع ما يكتب دائما.

هو يؤكد أن الظنون ولود ويسعفه في المقام قول التوحيدي (من ضاف صدره اتسع لسانه) في تأكيد حقيقة أن نسل الظنون الآدمية يطول بضيق الأفق.

وفي موطن آخر يعرض لقضية نوعية كعادته، فينقل مقولة لرولان بارت (أن يكتب المرء عن نفسه فهذا ما يمكن أن يبدو على أنها فكرة دعيّة، ولكنها أيضا فكرة بسيطة بساطة فكرة الانتحار).

كل كتّاب السيرة الذاتية هم (منتحرون) بهذا الوصف؛ لأن الذي يكتب عن نفسه هو جثة حية.

أحيانا يلمّح للفكرة، ويزرعها بين السطور، إيماناً منه بذكاء القارئ وفطنته لكشف جذموريتها.

حينما جاء على وصف المثقف قال هو مثقف عضوي عند غرامشي، ومثقف ملتزم في رأي سارتر، ومثقف متخصص بالنسبة إلى فوكو، ومثقف رسولي عند إدوارد سعيد، ومثقف منظّر على ما يرى دولوز، ومثقف محترف في كتابات كارل مانهايم، وهو عند بيير بورديو مثقف جماعي؛ ولكن السلامي يختلف عنهم ويقول أن المثقف (محارب) لأنه يحارب فكريا وجماليا كل مظاهر الخمول والاطمئنان عند الناس ويقترح أفكارا جديدة.

إنه يواصل هوايته المعتادة في حمل بندقية أفكاره وإطلاقها في سماء المشهد الثقافي لتحدث دويّا كقوله في إنكار “الخلق الشعري” لدى الشعراء وأن الحاصل هو (إعادة تدوير للمألوف من المعاني)؛ لأن الشعر -حسب رأيه- أُفرغ من الشعر ذاته حتى باتت أغلب القصائد تقول كل شيء، ولا توحي إلا بالقليل من الأشياء.

ما يعجبني في السلامي أنه يقول رأيه وهو خلاف السائد؛ ولذلك تجيء كتاباته مجترحة للدوكسا (الرأي العام، الرأي الدارج)؛ لأن هذا نابع من وعيه أن المشهد ملَّ من النسخ المكررة الرديئة.

إنه يسأل: ما بقي للشعر؟

(لم يبق أمام الشعر في ظل هذا الانفجار الروائي الذي افتكّ منه قرّاءه ودارسيه إلا الوعي بهناته، وتبيّن أسبابها للتحرر منها).

السلامي مثل تعريفه للشعر: التهور.

إن هذا الكتاب مثوّر للأفكار النوعية، ومصنع للمواضيع الآخاذة.

الكتاب من القطع المتوسط، من إصدارات مركز الأدب العربي، يقع في 188 صفحة الصادر عام 2021م.

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *