18مايو

هل فاقد الشيء يعطيه؟

لطالما فكرت في هذا التراث الكبير من الأمثال الذي تزخر به ثقافتنا العربية.

هذه الأمثال التي تعتبر قوالب جاهزة معلبة تؤخذ على عجل ويتم زجها وسط الأحداث والأحاديث وكأنها حقائق مسلمّة، ومن الأمثال التي أدمنت النظر فيها وعرضتها على ميزان النقد المثل المشهور (فاقد الشيء لا يعطيه) وقد طرحت تغريدة في حسابي قلت فيها:

“فاقد الشيء يعطيه بالشكل الذي تمنى أن يحصل عليه” هل تتفق مع العبارة؟

وقد جاءت ردود الأفعال متباينة ما بين مخالف وموافق وهناك رأي ثالث يقول: على حسب وعي الفاقد.

الذين يقولون أن فاقد الشيء يعطيه يستدلون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وأنه كان يتيما ومع ذلك كان رحمة للعالمين، وقد صدقوا.

وأما الفريق الثاني فيقولون أن فاقد الشيء لا يعطيه ويقولون كيف يعطي الشخص شيء لا يملكه، فلو كان معدما ليس معه مال وقد طلبت منه مالا، فأنّا له أن يعطيك وهو لا يملك المال؟، أو احتجت إلى سيارة وهو لا يملكها فكيف يعطيك إياها؟ وأيضا لقد صدقوا.

فكيفك إذن كلاهما صحيح؟

أقول وبالله التوفيق: أن من يستدلون من الفريق الأول بالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد صدقوا على أننا لا نسلم لهم بالتبعية المطلقة؛ إذ ليس كل واحد سيكون مثل النبي المعصوم؛ فقد أثبتت التجربة والمشاهدة والواقع أن كثيرا ممن حُرموا (العواطف الجياشة) في صغرهم فإنهم يصبحوا قساة وربما قتلة، ومسوّغهم في ذلك أنهم فقدوا العواطف في الصغر فلم يعرفوها حينما كبروا.

وقد يكون هناك قلة يعطون العطف والحنان والمحبة وهي أشياء غير مادية وهم لم يأخذوها في الصغر لكن هناك أشياء أيضا غير مادية لا يمكن أن يعطوها وهم وأنت لا يملكونها مثل العلم والقضايا الايمانية فالذي لا يؤمن لا يمكن أن يبلّغ الايمان لغيره.

وأما الفريق الثاني فاستدلالهم واضح، وقولهم مقبول، فإلى ماذا نخلص؟

نخلص في هذا إلى أن مثل هذه الأمثال لا تصلح للاستخدام البشري لأن البشر لا يمكن أن يوضعوا على المسطرة، المسطرة التي تصلح لفيثاغورس ونيوتن ومن لف لفيفهما.

هذا المثل لا يصلح إلا في العلوم المادية؛ لأن البشر لا يحكمون بقانون واحد فهم أجناس مختلفة، وطباع شتى، وأرواح متفرقة.

ونحن نفرح بهذه الأمثال لأننا نركّب الأمثال على الوقائع، لا العكس، ولو بحثنا في الأمثال لوجدنا أن لكل مثل نقيضه ولكن نستخدم المثل على حسب الحالة الشعورية لدينا فلو وجدنا أديبا بارعا وكان ابنه مثله لقلنا: (ابن الوز عوام)، ولو رأينا رجلا كريما وكان له ابنا بخيلا لقلنا: (أن النار لا تخلف إلا رماد) فنحن إذن كائنات تستأنس بأن يكون لها في كل حادثة مثالا لتوهم نفسها بالمعرفة؛ لأن الإنسان يخاف من الجهل، وهو يريد تعريف الأشياء ليبرهن على معرفته المطلقة.

هذا المثل بالنسبة لي (فاقد الشيء لا يعطيه) هو مَثَلٌ فاقد الأهلية، ولا يمكن أن يعوّل عليه أبدا، ويجب أن ننظر إلى هذا التراث من الأمثال بعين فاحصة ناقدة حتى نميز الخبيث من الطيب، وألا ننصاع إليه بحجة إنها (أمثال).

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    2 تعليقان

    1. بارك الله بك، أصبت كبد الحقيقة
      إستمر ^_^

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *