28سبتمبر

المسافة والنسيان

لطالما حيرتني العلاقات الإنسانية بمفهومها العام، وأجدني غير مستقر على حالٍ واحد في بعض تفاصيلها كالمسافة والنسيان والحب المتعدد والحبيب الأول وغيرها..
المسافة وما أدراك ما المسافة..
إنها لغز بالنسبة لي بعيدا عن العباراة الرنانة التي تقول: المسافة تمنع اللمس، لا تمنع الحب، أعتقد أن المسافة لها عمل كبير في تغيير مكان الأشياء، وتغيير موازين المشاعر؛ بل إني أميل للحكمة الخالدة: كثرة الفقد تولد القدرة على الاستغناء، وهذه الحكمة هي بوابتي للنسيان بحكم أن الغياب المادي يلحقه غياب معنوي في غالب الأحيان، ولربما كان مصيبا ولو من بعيد بافيزي حينما قال: لماذا ننسى الموتى؟ قال: لأنهم لم يعودوا ذوي فائدة لنا.
النسيان يجر بعضه بعضها؛ على أني لا أفهم النسيان كحذف تام لجميع التفاصيل واجتثاثها من أصولها؛ بل هو أشبه بإطفاء النور على الغرفة مع بقاء محتوياتها، والتذكر هو إشعال لهذا النور، وما بين الإشعال والإطفاء تبقى المحتويات باقية موجودة..
ومن الأمور التي تساعد في سرعة الإطفاء الموت والمسافة والبديل، وكما قالت بيشوب: إن فن الفقد ليس عصيًا على  الإتقان، أشياء كثيرة تبدو مفعمة بنية أن تُفقد، وفقدها ليس بكارثة.
مسألة الحبيب الأول أرى فيها أن أول الأشياء دائما مميزة لا لذاتها بل لمركزها، بمعنى قد يكون أول بيت يسكنه المرء متواضعا جدا ثم ينتقل منه إلى بيتٍ فاره؛ ولكن يبقى المسكن الأول على تواضعه أثيرا في نفسه عند الأغلب؛ لكني أتفق مع أنيس منصور أن الزمن الفائت المتعب والمسكن الأول المتواضع والحبيب السيء
الأول لا أتمنى العودة لكل هذا أبدا، ولو كان مركز كل واحد منهم الأول.
أنا لا أحن لبيتي المتواضع القديم ولا أتمنى أن يعود الزمن الذي كنت أمشي فيه من البيت إلى المدرسة، ولا آمل أن يتغير الوضع إلى ما قبل ثورة التقنية أبدا.
أنا مع الأصلح لا مع الذكريات، أنا مع الأفضل ولو كان ترتيبه العاشر.
هل يتسع القلب لأكثر من حب؟ نعم يتسع.
نعم من حيث الإمكانية لا من حيث الخيرية.
وهذه القضية هي قضية مقلقلة محيرة: الإشراك والتوحيد في الحب وهل التوحيد في الحب شرطٌ لازمٌ في صدق الحب، والإشراك فيه قادحا من قوادحه؟وقد تم معالجة هذا الموضوع  كثيراً وتعددت الآراء فقائلٌ يقول أن القلب مثل القبر لا يحوي إلا  واحداً، والآخر يقول أن تعدد المحبوبات لا يدل على الكذب في الحب وأنا أقول:
القلب يتسع، والواحد أليق.

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    4 تعليقات

    1. مقال ممتع و فيه ترجمه من العامي للفصيح بأسلوب أدبي رائع

    2. أمل القحطاني

      النسيان هو أشبه بإطفاء النور على الغرفة مع بقاء محتوياتها، والتذكر هو إشعال لهذا النور، وما بين الإشعال والإطفاء تبقى المحتويات باقية موجودة..?

    3. ممكن يتسع أ.حاتم لكن بتفاوت كبير ولوقت قصير،
      ويوضح التفاوت على الإنسان ولو حرص أن يخفيه،
      وهذا الوضوح يذبذب الشعور للطرف الأقل قسمة، وبالتالي هذه الذبذبة
      تساهم في تغيير مسمى العلاقة إلى أي شيء إلا الحب.

    4. مقال في غاية الروووعة وأتفق مع كل كلمة كتبتها ?

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *