14أغسطس

لا أحد يفتني بعدك!

انتهت أيامي الجميلة..
اكتشفت بعد الفراغ من قراءة الكتاب أني كنت أتباطئ في قراءته كيلا أنهيه؛ بيد أن فصل الختام أتى، وأتت النهاية المحتومة وودعتُ صديقي للأبد..
كان وقت القراءة في السيارة له؛ حتى أنني أحببت السيارة من أجله..
لا أدري لماذا كل هذا الميل رغم سوداويته وقساوته الفضة على المرأة إلا أنني كلما تعمقت في الكتاب وجدت أسلوب هذا الرجل يأسرني..
لقد كان بافيزي مختلفا عن كل من قرأت لهم..
إنه سوداوي بنعومة، وليس فيه حدة هنري ميلر مثلا، وإنما يأخذك بالتدريج ثم يلسعك لسعات لا تنساها سواء في العلاقات أو الجنس أو الأدب.
مغرق في الإتكاء على الثقافة الإغريقية ويستشهد كثيرا بها في هذه المذكرات..
قارئ نهم فلا تكاد تمر صفحة من غير ذكر كاتبٍ أو كتابٍ قرأها باللغات التي يحسنها (اللاتينية والفرنسية والإنجليزية).
لقد جاء بافيزي ليصنع له مساحته الخاصة في ذاكرتي القرائية وهو كان يعلم ذلك من نفسه..
لقد تعلمتُ من هذا الكتاب كيف تُكتب اليوميات بكل بلاغة الإيجاز وقوة المعنى.
إن بافيزي يعطيني صورة واضحة المعالم للملاكم الأدبي فهو لا يسقط باللكمة القاضية ولكن يلعب معك إلى الجولة الأخيرة.
لقد ارتسم الكتاب بالطابع الحزين منذ أن غادر تورينو (مسقط رأسه) ورحل إلى روما..
وبدأت فكرة الانتحار تُلقي بظلالها عليه حتى كتب في آخر صفحة (لن أكتب بعد الآن)..
تشيزاري أحد القلائل الذين استطاعوا أن يفوزوا بكامل الإعجاب أو أغلبه على طول الطريق..
الرجل رغم السجن (الإقامة الجبرية في بيته) إلا أنه كان يفيض إبداعا..
في أيامه الأخيرة خصوصا يوم السادس عشر من آب كان التوجع والتفجع ظاهرين عليه بشكل كبير؛ بل إنه في اليوم الذي قبله قال (لماذا لم تفعلها؟) وأظنه يقصد الانتحار.
لم يبق له شيء يتمناه وهو لسنوات يتجاهل نقائصه ويقول هذه السنة لن أتمها وبالفعل في عام 1950م وضع بافيزي حدا لحياته في فندق صغير في تورينو.
في نفس السنة التي حازت روايته (الصيف الجميل) على أعلى جائزة في إيطاليا، بافيزي يقرر الالتحاق بالحياة الأخرى ويرحل عن دنيانا الفانية ويصف الجائزة بقوله  جائزة دنيوية.
هناك بعض النقاط السوداء والمنحنيات الغريبة والأشياء الشاذة في آرائه والتي سيتجاوزها القارئ الحصيف ويعلم أن هذه الشطحات موجودة عند كل كاتب..
ودعت الكتاب بحرارة عالية ولا أدري من سيستطيع أن يأخذ مكانته في السيارة!!
أعلم أنه الفراغ الكبير..
لا أحد سيفتنني بعدك يا بافيزي..
كتاب مهنة العيش لتشيزاري بافيزي يقع في 560 صفحة من القطع المتوسط وهو من منشورات دار مدى الصادر عام 2016م

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *