16فبراير

فن الثلاث نقاط

يقولون يُعرف الكاتب بشدة ما يحذف لا بكثرة ما يكتب.

 أشهد على صدق هذه العبارة حينما أتذكر حوليات زهير، والنقط الثلاث عند فرناندو بيسوا في (اللاطمأنية)؛ فالمترجم يقول: وهذه النقط دالةٌ على الحذف، وأيضا  ما أراه -حاليا- عند بافيزي في مذكراته مهنة العيش، فإنك  واجد في الهوامش عبارات كتبها المحقق يقول فيها: تم شطب  ثمانية أسطر من المخطوطة، وفي صفحة أخرى يقول: تم شطب  خمسة أسطر من المخطوطة، وهكذا فإنك لن تقرأ عشر صفحات تقريبا إلا وتجد أن بافيزي قد شطب عدة أسطر.
لابد أن نعلم أن الكاتب الإيطالي تشيزاري بافيزي قد انتحر وقبل انتحاره أحرق كل كتبه ما عدا هذه اليوميات التي سجلها من عام  1935م  إلى عام 1950م.
هو أبقى هذه اليوميات لأن فيها رسائل عدة يجب أن تُقرأ، أو هناك تفاصيل أحب بافيزي أن يعلموها النقاد والقراء.
لقد استوقفني هذا الحدث كثيرا، وهو شطبه لكثير من الأسطر.
لقد كان الناقد الداخلي لبافيزي شديد الحدة كما هو عند زهير وبيسوا وكثيرٍ من الأدباء والعلماء قبلهم كالخليل ابن أحمد الفراهيدي  حينما سُئل لماذا لا تكتب الشعر قال: إن الذي يجيء لا يرضيني، والذي أرضاه لا يأتيني، مع أن له أبياتا مستحسنة وديوانا صغيرا.

وانظر إلى جرير حينما أنشد:

يا حبذا جبل الريان من جبلٍ

وحبذا ساكن الريان من كانا

قال الفرزدق: ولو كان ساكنه قرودا؟
قال جرير: لو أردتُ قلتُ: ما كانا ولم أقل من كانا.
على أن الوضع ظاهرٌ على هذه القصة؛ لأن الفرزدق هو هو في اللغة ولا يمكن أن يجهل أن من للعاقل وما لغير العاقل؛ ولكن الذي يهم في القصة -إن صحت- حضور النقد ومعرفة بكلام العرب؛ فأنتَ ترى القوم يبخسون  ما عندهم، ويشطبون من مخطوطاتهم، ويحذفون من أبياتهم،  من أجل ماذا؟من أجل أنهم نقاد في الدرجة الأولى، ويعرفون ما يبقى ليتمّ نسبته إليهم، فأين هذا مما نراه اليوم من كتابات عابرة، وكتبٌ قد شاخت على الأرففمن سوء صنيع كتابها!
إن كثيرا من كتّاب اليوم يعانون من تضخم الأنا، والنرجسية التي أطاحت بزهرة إبداعهم.
ليتهم يتعلمون فن الحوليات عند زهير، وفن الثلاث نقاط عن بيسوا، وفن الشطب عند بافيزي.

  • نشر في مجلة فرقد الإبداعية التابعة للنادي الأدبي بالطائف العدد الثالث والعشرين:
    https://fargad.sa/?p=12497

    شارك التدوينة !

    عن Hatem Ali

    اضف رد

    لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

    *